الأربعاء، 26 فبراير 2025

أرواحنا والأحجار الكريمة




تميزت عدّة من الأحجار عن سواها، لجمالها وجوهرها الثمين، فأطلق عليها اسم (الأحجار الكريمة)، وما حقيقتها إلا مجرد حجر، لكن المثقال اليسير منها يُحْسب له قيمة. من تلك الأحجار القيمة التي تباع وتشترى: (الماس، والعقيق، والزبرجد، والفيروز، والزمرد، والياقوت، وسوها)، هل سألت نفسك يومًا لماذا كانت هذه الأحجار لها يقيمة مادية؟ وتحفظ في صناديق مغلقة؟ ولها سوق يتنافس عليها باعة الجوهر؟، وبقية الأحجار تلقى في قارعة الطريق ولا يُعَار لها أي اعتبار؟

باختصار الأحجار الكريمة مميزة وتختلف عن بقية الصخور والحصى، حتى هذه الأحجار النفيسة يختلف سعرها عن غيرها من ذات النوع وذات الصنف، باختلاف التركيب، فالتجاويف والشوائب تقلل من قيمتها، وكلما زاد النقاء ارتفع الثمن، والعكس صحيح، حديثنا ليس عن هذه المجوهرات، بل عن شيء آخر نعرضه الآن، وهو أن هذه النفس البشرية، كالحجر النفيس، والأعمال التي يفعلها المرء تنعكس على هذه الروح التي بين جنبيك خيرًا فخير، وشرًا فشر، لهذا قد نجد بشرًا من نوع خاصّ مجرد النظر إلى وجوههم ترتاح لهم الأفئدة وتطمئن لمحياهم النفوس وكأنما هذا البشر في جوهره ما هو إلا ملاك يسير على الأرض، وعلى النقيض تمامًا قد نرى بشرًا آخرًا تنفر منه النفوس وتستوحش وتشمئز لمطالعته وكأنما لا نرى أمامنا إلا مجرد شيطان رجيم والعياذ بالله!

فما هو السر الذي يجذبنا لهذا وينفرنا من ذاك؟، لماذا ننسحر لهذه الروح وكأن مغناطيسًا يسحبنا إليها، وعلى النقيض ذلك الذي لا نراه إلا إبليس اللعين، هل هناك سر يميز أحدهما عن الآخر؟ البعض ينهمك في العبادة فلا نرى على محياه ذلك الأثر النوراني، ولربّ مُقل نرى الإنجذاب إليه والارتياح!، هل وراء ذلك من سر؟ يتفق الجميع أنّ الاعتبار بالكيف لا بالكم، فلتكن أعمالنا كيفًا، مع ذاك يصر البعض على الكميات دون النوع. روي في الأثر أنّ عابدًا عبد الله خمسمائة سنة فدخل النّار، بينما صحابي لم يصل في حياته ركعة واحدة، قال عنه النبي: “إنّه لمن أهل الجنّة”.

البعض يظن أنّ ورود الجنّة بكثرة الأعمال، بينما نشاهد نماذج كثيرة تفصح أنّ الجزاء ليس بالكم، إنما بالكيف. الخلاصّة المستوحاة أنّ الله لم يخلقنا ليجهدنا في عبادته، فما يصنع بعبادتنا وهو الغني المطلق؟، لم يخلقنا ليربح علينا، إنما خلقنا لنربح عليه، وذلك متحقق بالقليل من العبادات. فرب ركعة؛ خير من آلاف الركعات، فكيف نصحح المسار؟

لقد خلقنا الله وقد وهبنا ماله واستقرضنا إياه، ومع ذلك يضاعف لنا الواهب الموهوبات: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). هناك من الصالحين من يستهدف صلاة مائة ركعة في اليوم الواحد، فهل فكر هذا العابد تأدية صلاة الخاشعين؟!، إنّ صلاة الخشية، هي المطلوبة، وهي الكنز الذي غفلنا عنها، وهي تلك الصلاة التي بالفعل تنهى عن الفحشاء والمنكر. السؤال: ما فائدة الصلاة إذا تجردت من روحها؟، ما فائدة الصدقات إذا استهدفت التفاخر والرياء؟، إنّ الله لا ينظر إلى كثرة الأموال أو قلتها، إنما ينظر إلى القلوب التي تهب الصدقات وتغيث الملهوف، فالأعمال بالنيات.

ولنا في قصة ابني آدم قابيل وهابيل خير موعظة، حيث يتجلى لنا درس التقوى، وإنّه من الأسس الهامة لقبول الأعمال، قال تعالى على لسان هابيل: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، وفي غير محل تركّز الآيات على هذا البعد: (وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ)، (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)، وهنا نطرح السؤال: لماذا نجرد العبادات من محتواها القدسي، ونتمسك بالقشور؟

ربّ فقير يدفع درهمًا واحدًا، خير من ذلك المتبجح الذي يدفع أطنان الذهب، هل نعي خطورة الأمر وفداحته؟، ربّ مبلغ زهيد نفع، وربّ مبلغ كبير أضر وأسخط، فما هو الاعتبار؟، الجواب في الآية الآنفة: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، إذًا الإعتبار بالكيف لا بالكم. يقول تبارك اسمه: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء)، إذًا لا فائدة من الزبد الخالي من المحتوى، ما يصنع الله في اللحوم والأضاحي والدماء الكثيرة باهظة الثمن؟، المطلوب أن يتحرك هذا الوجدان للمعاني النبيلة، السؤال الجوهري: لماذا نحتبس بين جدران الطقوسية؟

إنما الهدف بلوغ التقوى التي تفتح بوابة الصفاء والإنشراح، وحالة القرب من الله. فربّ كلمة خفيفة على اللسان هي ثقيلة في كفة الميزان، إذا حملت المعاني الرفيعة وأثرت في صاحبها. لهذا لزم الصدق في القول والإخلاص في العمل وتطهير النية.

ما فائدة التبتل الطويل والقلب ساهٍ لاه؟ ربّ ركعة أدخلت صاحبها الجنّة، وربّ سجدة أسكنت مؤديها الفردوس. فلماذا لا نركّز على الكيفية؟، ونغرق في (كاف) الكم. الكم جيد، ولكن الاعتبار بالكيف. لهذا يتبخر العمل ويتحول لرماد، إذا خالط العمل (راء) الرياء. لهذا ورد: “أنا أغنى الشركاء عن الشرك”. والنصيحة المميزة الخالدة إذا اهتم الناس بكثرة العمل، فليكن همّك إجادته والخلاص فيه. فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش؟، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب؟

نعود لحديث الأحجار، وقبل أن توضع روحك في الميزان، عليك أن تتفكر أي حجر كريم تنوي أن تكون، وعلى هذا النهج تحرك وكن متميزًا في قولك وفعلك وفي  نواياك، فالحجر النفيس ينافس غيره بما يحتوي من جوهر أصيل، فشكّل روحك لتكن ذلك المَلاك الذي ينجذب إليه الجميع ولا تهتم بالقيل والقال، فالجوهر يُعلى ولا يعلى عليه.

الثلاثاء، 18 فبراير 2025

صياد بطريقة عجوز "أرنست همنغواي"




ليس كل إنسان يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، البعض يعيش حياة الشقاء وشقاوة الحياة، منذ بواكير أيامه ونعومة أظفاره، الحياة تحتاج لصبر وإصرار لبلوغ المرام.. وإليك السؤال: هل قرأت الرواية النوبلية "العجوز والبحر"، للأديب العالمي أرنست همنغواي؟

إذا كنت قرأتها ستدرك المعنى فورًا، وإليك التفاصيل لتكون في الصورة.. هذه الرواية ذائعة الصيت تسحبك إلى الغوص في عمق البحر، تنقلك إلى ذلك المركَب المعدّ للصيد. ستقذفك السطور إلى ذلك القارب الشراعي البسيط الذي تراقصه الأمواج.

والآن، أغمض عينيك، وحلّق بخيالك لتعايش لحظات خاصّة في عروق أعصاب ذلك الصياد العجوز، الذي راهن عليه المؤلف لحصد جائزته الخالدة، هذا العجوز – بطل الرواية – لديه إصرار من فولاذ لاصطياد سمكة بحرية خرافية تحوم في أسفل الماء!

أغمض عينيك أكثر؛ لتعيشَ تلك اللحظات الطويلة، وأنت تكافح مع الموج والرياح، وتقاوم دوار البحر. إذا عشت أجواء الرواية بالشكل الجيد، فستجد نفسك أنت ذلك الصياد العجوز، وأمامك مسؤولية شرف، وهي اقتلاع السمكة الضخمة من محيطها، وستقول في أعماقك عبارة التحدي الشهيرة: "أكون أو لا أكون".
أحسب أن أرنست همنغواي حول جائزة نوبل التي ينوي الظفر بها، إلى سمكة ضخمة يصعب انتزاعها، هنا تحوّلت روح أرنست همنغواي إلى روح ذلك الصياد العجوز المكافح، الذي يخطط لاقتلاع السمكة من عالمها.
إنّ قوة الأسلوب السردي في هذه الرواية جعلت من همنغواي أستاذًا رائدًا على عرش الرواية الحديثة، ومن يقرأ الرواية بتمعن سيلحظ عنصر "الرمزية" في التخوم، فـ "سانتياغو" -الصياد العجوز- يقاتل أسماك القرش الشرسة، وينافح للسيطرة على سمكته العملاقة؛ ليعيد لمكانته المهنية الشرف.

نستطيع أن نقول إن همنغواي حوّل منافسيه الأقوياء إلى أسماك قرش مفترسة، تستهدف الهدف الشرفي الذي أقسم همنغواي أن يحافظ عليه كوسام شرف، بؤرة دقيقة يمعن همنغواي فيها عدسته، ويضع الهشاشة البشرية أمام محك صراع الإنسان والطبيعة القاسية، والنزاع الصارم المستميت.

تتعملق عقدة الرواية أكثر في تلك اللحظة الدراماتيكية، حين تتقافز أسماك القرش على سمكته الجبارة، فتتخذها وليمة طازجة لا تفوّت. هنا يرى سانتياغو فريسته تؤكل أمام ناظريه دون أن يتمكن من إنقاذ لحمها الطري، تتبخر السمكة العظيمة، كل ما تبقى منها هيكلها العظمي فقط: عمود فقري ورأس وذيل، لن يصدق أحد روايته التي ستعيد له شرفه الضائع، إلا بالاحتفاظ بهذا الدليل المادي – وإن كان مجرد عظم – لكونه سيخرس الأفواه المشككة.. مؤسف جدًا ألا يصدق أحد ادعاءك الحقيقي، مؤسف جدًا أن تحتاج لهذه العظام كدليل مصداقي لإثبات صحة روايتك الحقة.
وبعد رحلة أسطورية طويلة، وصل سانتياغو إلى الشاطئ متعبًا منهكًا لا تعرف عيناه طريقًا إلا إلى السرير، ألقى بالعظام العملاقة على الساحل، وهكذا صدّق الصيادون مقدرته، وأنه مثال لذلك الصياد المخضرم الذي تنحني له الرقاب، وترفع لأجله القبعات.

في هذه الحياة أنت في معركة بحرية، بالطبع ليست معركة ذات الصواري، أو لنقل ذات الصواري بصورة مختلفة، بطريقة هذا الصياد العجوز، الذي ابتكره همنغواي من رحم معاناته مع غرمائه لبلوغ أحلامه الروائية!. فهل تستطيع إثبات مقدرتك ووجودك كما فعلها همنغواي؟
الناس لا يصدقون المزاعم، وإذا أردت أن تحفر اسمك على جبين التاريخ، يلزمك سمكة عملاقة لتصطادها.. قد تختلف هذه السمكة من فرد لآخر، ولكنك تحتاج لذلك الهدف الكبير، كما تحتاج لصبر معياري تتجلى فيه مقدرتك وعزمك، تحتاج أن تتفوق على أسماك القرش، تحتاج لقوة وإرادة حديدية لاقتلاع سمكتك العظيمة. ثم يكون لزامًا عليك الاحتفاظ بها – ولو في صورتها العظمية الهيكلية – لتثبت للجميع أنك فعلتها.

حينها ستُعْرف مقدرتك، وقد تعرض سمكتك الشخصية في متحف يدوّن تحتها اسمك، لتبقى مقدرتك مسجلة تعترف بها الأجيال.

الأربعاء، 5 فبراير 2025

بين النحلة والذبابة!

 


الإنسان في رحلة الحياة نحلة أم ذبابة؟ إليك البيان بالتفصيل.


لقد خلق الله الكائنات، ومن ضمن ما خلق الحشرات، ومن أشهر الحشرات المعروفة والمألوفة النحلة والذبابة. ورغم أن لكلتا الحشرتين مزايا فريدة وتراكيب معقدة، فإن لهما معاني فارقة.. إحداهما ترفع المنعوت بها فوق السماء، والأخرى تحط بالموصوف بها في درك الحضيض!.


إياك أن تقول لأحدهم: "أنت ذبابة"؛ فهي شتيمة لاذعة في نظر الجميع، بينما سيسعد كثيرًا من تنعته بالنحلة، رغم أنهما حشرتان طائرتان متقاربتان في الحجم.. فما الفرق بينهما؟ ولماذا كان النعت بالأولى مسبة وشتيمة وبالثانية مديحًا وثناء؟


تسقط الذبابة على القاذورات عادة، وتسبب الأمراض، وهي من أخطر الحشرات نقلًا للأوبئة، ومن أبرز الأمراض التي تسببها الذبابة: (التيفوئيد، والكوليرا، والجمرة الخبيثة، والجذام، وداء الليشمانيات، والدوسنتاريا، وغيرها).. في بعض المصادر أن الذبابة تنقل 200 نوع من البكتيريا، البعض لا يحتمل مظهرها القبيح والمقزز، والبعض تأقلم مع وجودها وقد يهشّها أحيانًا برفق غير مكترث لوجودها من عدمه.


بيد أن بعض الباحثين ينبه على خطورتها، وأنها تتقيأ بصورة دائمة على طعامك، ثم إنها تستطيب الأماكن القذرة، فتهبط على العفن وكل مستقذر يأنفه الذوق السليم، البعض يتهاون مع الذباب، علمًا أن بعض العلماء يحذر منها، حيث يقول عالم الحشرات "رون هاريسون": لا يحتاج الذباب لنقل جراثيمه إلا للمسة بمقدار ثانية واحدة، لهذا يحذر من تناول الطعام الذي يبيعه الباعة المتجولون، فإذا شاهدت ذبابة تحوم فتوقع أنّ الجراثيم مهيأة للانتقال إلى معدتك. بعض الذباب لحوح لجوج، وكأنه يتعمد إيذاءك وإزعاجك، لا سيّما في فصلَي: الصيف والربيع.


أما النحلة فهي صانعة العسل، العسل الحلو طيب المذاق، بما يحمل من لذة وشفاء للناس، وقيمة غذائية متفق عليها.. النحلة طيبة لا تحط إلا على الورود والطيبات، تعمل بجد لجمع الرحيق، ولا تتوقف حتى تكتمل الخلية وتملأها بالشمع والعسل المصفى، ورغم وجود شوكتها الدفاعية فإنها تذكرنا بكل العناوين الخيرة، العمل والإخلاص، الورد والرحيق، العسل الشهي الذي يمدنا بالطاقة والحيوية والشفاء.


النحلة لها العديد من الفوائد، سواء على البيئة كدورها البارز في التلقيح النباتي، أو لما يتحصله الإنسان من منتجات غاية في الأهمية، ومما تنتجه النحلة للبشر الشمع، والعسل، والعكبر، وغذاء الملكات.


فلماذا الحديث عن هاتين الحشرتين؟. نستطيع قراءة كل حشرة قراءة مسطحة، ونحفظ المعلومات العلمية لكل صنف وكفى.. غير أن الأهم هو القراءة الأعمق، لبلوغ أغوار المعاني المستفادة من درس هاتين الحشرتين. فماذا نستفيد؟ على الواحد منا أن يتأمل حياته جيدًا، ويقيّم تصرفاته بموضوعية؛ أهو ضمن عالم الذباب اللعين، أم في كرنفال راقص برفقة الملكة المكرمة؟


أي نوع نحن في الحقيقة؟ أنقدم الفائدة لأنفسنا وللآخرين كما تصنع النحلة، أم نزاول الأذية بكل فنونها وأشكالها؟ البعض يضر نفسه باستخدام المواد الضارة كالتدخين والمخدرات وإنتاج عوادم السيارات والمصانع، وإلقاء النفايات في البحر والطرقات وغيرها، وهذا هو دور الذبابة.. فمتى سنوقف الوباء؟ بينما نجد آخرين دورهم دور النحلة، يعطرون الأجواء بزراعة الورود وتشجير الحدائق، ونشر الطاقة الإيجابية، في كل مكان.


نتعلم من درس النحلة والذبابة فن الابتعاد عن الخصال الذميمة، كالكذب والسرقة والاحتيال والتعامل الفظ الخشن، وإحلال كل محمود بالتعامل الطيب وإلقاء التحية ونشر الابتسامة.


إننا نتعلم من هذا الدرس بذل النشاط القوي في كل خير، وصرف المنفعة الجزلة لكل المحيطين، لأنفسنا وللبشر ولسائر المخلوقات والكائنات، ورفع الأذى وتحاشي الوقوع في بؤرة الشر.


لا نحتاج لتقييم الآخرين ولا داعي أن يصفنا أحدهم بالنحلة أو الذبابة؛ فالإنسان أبصر بطبيعته، والمهم هي الحقيقة التي تتشكل بها شخصيتنا، لا مجاملات الآخرين وشتائمهم.


البعض حقيقة هو نحلة بالفعل في كل فصول حياته، والبعض الآخر – مع شديد الأسف – لا يتقمص إلا قميص الذباب، فالإنسان حيث وضع نفسه، فلماذا لا نجعل هذا الكوكب يدوّي بفيالق النحل، ويترفع عن الانخراط ضمن جيوش الذباب الضار؟، ما أجمل أن يكون الواحد فينا نحلة بكل المقاييس التي تبعث على الفخار.

الثلاثاء، 21 يناير 2025

اصنع من الحصى بيتًا

 



الحكايات الخرافية قد تكون واقعًا، والأحلام المستحيلة قد تتحقق!. لمَ لا؟. فلنجرب قراءة هذا المقال، ولنتحقق: هل بالإمكان صناعة بيت من الحصى؟


وإليك هذه الحكاية.. حين عجز أحد القادة عن فتح مدينة محصنة منيعة شاهد نملة تصرّ على حمل شعيرة، فانقدح في رأسه الإصرار حتى نال مطلبه! إن شرارة ذلك الفتح الكبير نملة صغيرة مع برهة تأمل، فلماذا لا نتفكر قليلًا لنحقق المعجزات؟


أدهشتني قصة في كتاب، ولا تزال حكمتها تدوّي، وهي أن صائغًا لاحظ أن برادة الذهب تتساقط على الأرض، ثم يأتي عامل النظافة ويكنسها، ويلقي بها في القمامة، هنا صرخ هذا الصائغ في أعماقه حين لمعت في عقله فكرة طازجة، فتحرك من فوره وجلب فرشة خاصة، وأخذ يكنس البرادة نهاية كل يوم، ليصنع من نُثار البرادة ثروته.


السؤال الحقيقي الذي نود طرحه هو: أيهما أثمن وأهم؛ وقتك الضائع أم برادة الذهب؟ كثيرًا ما نشتكي من قلة الوقت، ونحن نبدد دقائق أعمارنا يمينًا ويسارًا، أحدهم أنهى قراءة عدة كتب في لحظات انتظار إشارة المرور المزعجة، فكم من الوقت أهدرنا في قاعات الانتظار؟


أعجبتني فكرة وضع كتب في صالون الحلاقة وغرف الانتظار، لكن المؤسف أن الأيدي لا تصل إلى هذه الكتب، بل إن لدى كل شخص ثروة ثمينة هي جهازه المحمول، فهل أحسنا إدارة الوقت المهدور؟ نقول: اصنع من الحصى بيتًا، ووقتك الضائع لو تم جمعه بطريقة جمع برادة الذهب، فإن دقائق الانتظار ستتحول إلى ساعات.


أعجبتني عقلية جامع الخردة، يجمع ما لا يرغب به الناس، ليصنع من الركام ثروة.. كلنا يشاهد أن الشعوب المتقدمة تقرأ على متن القطار والطائرة، يقرؤون في أثناء أسفارهم وفي أوقات انتظارهم، أما بنو جلدتي فيتثاءبون بعيون دامعة كسلى، وهم يعيدون السؤال ذاته عدة مرات: متى سنصل؟. كلنا يمتلك 24 ساعة في اليوم، فهل استخدمناها بكفاءة؟ المدهش أنّ الأخ المتثائب يشتكي قلة الوقت!


إنّ أغلب الشعوب العربية لا تحسن إدارة وقتها، ولهذا تخلفنا وتقدم الآخرون، الوقت ساعة رملية، ومع انتهاء آخر ذرة تنتهي أعمارنا، لنقرأ كتاب “التأثير المركب”، للمتحدث التحفيزيّ الكاتب الأميركي دارين هاردي، وكتاب “العادات الذرية”، لخبير التنمية الذاتية الكاتب الأميركي جيمس كلير، لندرك ما تصنعه الدقيقة في حياتنا.


المقال الذي بين يديك ليس مهمًا إذا لم يحرك فيك ساكنًا، اشرب الشاي وشاهد ما يثلج الصدر، ودع ما كان على ما كان إذا أردت.. يعجبني من لا يكمل المقال لكونه فهم القصيدة من مطلعها، ففكرة المقال قائمة على أن الأجزاء تكوّن الهدف، والخطوات توصل للغايات، فأين هدفك؟ ولماذا لا تسعى؟


كلنا قرأ قصة الثعلب القاضي مع جبنة القردين المتخاصمين، بمكره أخذ يأكل من الجبنة حتى أتى عليها.. الثعلب المكار ذاته يغري غرابًا بالغناء، ليظفر بالجبنة التي في فمه، فلماذا لا نمارس حيلة الثعلب مع أوقاتنا الضائعة؟ مائة ريال إذا نقص منها ريال واحد لا تكون مائة، إنه تأثير الجزء الضئيل، القطرة المتوالية تشرخ الصخر، الحبل الضعيف يؤثر في حافة البئر، وقطرات القراءة التي تمارسها بين الحين والآخر، تشكل ثقافة في صندوق الجمجمة.


لقد أدهشني بائع كتب يدمن القراءة حينما تحدث، لم يضيِّع وقته في انتظار الزبون، بل جعل من دكانه مكتبة للقراءة، والأمر الطارئ محاسبة الزبائن، النتيجة أنه أصبح مكتبة صوتية متكاملة إن تكلم، ولا غرابة أن يكون كذلك ما دامت عادته مرافقة العلماء من خلال بساتين علومهم وكتبهم.. المؤسف أن لدينا كتبًا شهية وملونة، وذات قيمة ممتازة، ومع ذلك لا نحرك ساكنًا، نحتاج فقط إلى عملية الانضباط والإصرار على الهدف.


تذكر قصة إصرار النملة في حمل حبة الشعير إلى بيتها، واجعلها لك منهجَ حياة.. اقرأ كل يوم صفحة واحدة، أو ضع لك خمس دقائق لمطالعة كتاب، وستندهش من العبقرية التي حققتها، الثقافة كالثروة.. كن مدخرًا درهمًا كل يوم لتجني جرة الذهب في الختام، ومن يقرأ كل يوم فسيكون مكتبة متنقلة عما قريب، وسيدهش قُرّاءه ومستمعيه!


فقط داء واحد ينبغي عليك محاربته، هو الكسل.. فقط ثمرة واحدة نحتاجها بإلحاح، هي الالتزام على الخطة.. حينها سنصنع من الحصى بيتًا.