الخميس، 26 يونيو 2025

هل هجرنا الهجرة؟

 



في كثير من الأحيان تغيب عن الشعوب بوصلة الوعي فلا تلتقطجواهر الهوية التي تنتمي لها، فتمر علينا الأيام والمناسبات وكأنهاأعلام باهتة لا معنى لها ولا قيمة. إننا لا نحتفظ بتواريخ الأيام الهامة،ولا نحتفي بالمناسبات، أيام التقاويم أمست متماثلة ولا ترمز لحكاياتيجدر أن نرويها للأجيال، وربما احتفلنا بأعياد الآخرين وتملصنا منأيامنا الخالدة، أليس في هذا ضياع لهويتنا وتراثنا ومجدنا؟


لماذا لا نعبر عن الوجهة التي ننتمي لها؟ والمحطات التي نرتضيهاوتغذّي انتماءنا وتضيء دروبنا وتعلي من شأن أمتنا في كل عام،والسؤال الآن: ماذا يعني لنا أفول شمس ذي الحجة وبزوغ فجرالمحرّم. هل يعني لنا هذا اليوم شيئًا؟ أم أنّ هذا السؤال فاتر خافت؟هل هجرنا الهجرة؟


هل تناسينا دلالاتها العميقة، ومغزاها التحويلي، حتى أضحت ذكرىعابرة في تقويمٍ لا يلامس الذاكرة والوجدان؟ أأصبح أول العامالهجري مجرد يوم كبقية الأيام بلا دلالة ولا معنى؟ رأس السنة الهجرييتكرر كل عام وهو توقيت تأسيسي مهم لهويتنا ووعينا، فلماذا هجرناهمن قلوبنا قبل أن يهجر من عاداتنا؟


الهجرة مشروع


الهجرة النبوية ليست حادثة ذكرى بل هي مشروع، ينبغي علينااستحضاره واستعادته، وحتى ندرك ذلك فلنتأمل هذه القصة. يُحكىأن أمةً كانت تئن تحت وطأة الظلم، تم محاصرتها وتضييق الخناقعليها فلم تعد ترى في الأفق إلا سوادًا قاتمًا. غير أنّ قائدها، لم يرَفي هذه المحنة إلا علامات البداية. حيث كان الحل يكمن في الهجرة،لم يكن هذا الحل هروبًا من اضطهاد، بل كانت تحوّلًا عميقًا وجذريًّا،من مرحلة الضعف إلى مشروع القوة.


النبي محمد ﷺ لم يخرج من أرض مكة، بل خرج من زمن الضعفإلى زمن القوة والتمكين. إنه حمل الإيمان في القلب، والخطة فيالعقل، واليقين في الروح. لم تكن هجرته ضربًا من العشوائية، بل كانتهجرة محكمة مدروسة من قائد محنك يرى الغد قبل أن يحلّ فيضيافته. لقد قرأ المستقبل بعين البصيرة، وتوّج المعرفة بالفعل، ساربحكمة فائقة، ورسم خارطة بناء أمته بعناية، أفلا يستحق هذا الحدثأن يُحتفَى به؟ أن يكون له وقع خاص في حياتنا؟ في كل يوم منمسيرته كان لنا درس، فلماذا نغيب هجرته والحكمة المستقاة منها؟والسؤال الآن لك يا صاحبي: ماذا تستفيد من أحداث الهجرة؟ هلترى الهجرة حدث يستحق الذكر؟ أم مجرد مناسبة عابرة لا قيمة لها؟


هجران الهجرة


أليست الهجرة النبوية أساس من أساسات هذه الأمة؟ وجذر رئيس منجذورها؟ فلماذا ننسى أحد أهم الدعائم لهذا البنيان الشامخ؟ إننا لانتحدث عن غياب الاحتفاء، بل نتحدث عن عمق وجداننا المرتبك. عنهويتنا الضائعة المرتعشة، عن هذه الهوية التي تتنازعها التقاليدالموروثة والمؤثرات الغربية الجارفة. يا صاحبي ماذا تفسر احتفاليةبعض الشعوب العربية والإسلامية برأس السنة الميلادية وغياب حدثالهجرة النبوية؟


أليس في هذا تيه عن ماضٍ مشرفٍ ومجدٍ تليد؟ لماذا لا تعتز الأمةالإسلامية بأمجادها، والله يقول: “وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍلِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ”. إننا لا ندع مناسبة مستوردة إلا واحتفلنا بهاوسلطنا الإضاءة على أحداثها، إننا نلهث خلف أضواء الآخرين، بينماكنوزنا التاريخية الثمينة تُهمل، وتغيب عن وعينا. إن الهجرة صنعتدولة ورجالا، وفوق كل ذلك قيمًا ومبادئ خالدة، إنّ الهجرة مشروعحضاري كبير، أفلا يستحق أن يُحتفَى به وتسلط الإنارة عليه؟!

 

لماذا لا نوّزع التقويم الهجري ونتهاداه بذات القوة التي نصنعها معالتقويم الميلادي؟ للأسف الشديد، لم يعد هذا التقويم حيًا في وجداننا. لقد أصبح رقمًا على بطاقة هوية أو تاريخًا في وثيقةٍ حكومية، فلماذا لايتناغمُ إيقاع شعورنا معه؟ ولماذا لا يُنَظِّمُ تاريخهُ مسارات حياتنا؟ ياويح قلبي على هذا التقويم، لقد هجرنا الهجرة، فماذا بقي؟


إن هذا التقويم يعيش في غرفة الإنعاش… ألم يكن لهذا التقويمبصمة في حياتنا؟ فما عدا مما بدا، لقد انحسر هذا التقويم ويكاد أنيندرس، فلماذا لا نراجع واقع الحال قبل أن تطفئ شمعته!!


إن هذا التقويم بدا مهملًا، فلا يتذكره إلا موظف الأرشيف وكاتب العقدالشرعي، وما لف لفهم، فهل سنفقده تمامًا في الأعوام القادمة؟! هلغدونا أمةً بلا مشروع؟ بلا نبض؟ بلا تاريخ؟ بلا ذكرى أمجاد خالدة؟هل نحن بالفعل أمةٌ باعت حضارتها وهويتها لحساب الآخر؟ أم لايزال فينا رمق يكافح من أجل البقاء؟


لماذا هجرنا الهجرة؟


التقويم الهجري ليس أرقامًا تُطبع، بل تاج يُتوّج، وخارطة تُتبع،وبوصلة تُرشد. فيه تخليدٌ لأعظم حدثٍ عرفته الأمة، حين هجر النبيﷺ وطنه لا طلبًا لنجاة، بل لإعلاء كلمة التوحيد. فلماذا لا نتوحد معه؟علينا أن نُثَمِّن الرموز ونفخر بالهوية؛ أليس في العلم الأخضر شهادةلا تُداس، وقمة لا تُقاس؟ كذلك الهجرة… ليست حدثًا نستذكره، بلوريد لا ننفصل عنه، ونبض لا نعيش بدونه.


فلماذا هجرنا الهجرة؟ هل هو خوف من البدعة؟ أم أنّ كل دعوة فيهاتأمل ووعي هي محل ريبة؟ أم هو غزو ثقافي تشربناه، فلا نعرفأهمية الأحداث إلا إذا أشار الغرب لأهميتها؟ فكيف نهمل حدثًا بهذهالأهمية القصوى، التي أدركها الأقدمون ونساها اللاحقون؟ هل نحتاجلمفكر أو كاتب ليوقد لنا الشعلة؛ حتى ندرك ما وصلنا إليه من جفافٍوجفاء؟ هل أدركنا المعنى؟ هل امتلكنا الوعي؟ إننا لا نتغنى بالتاريخ،بقدر ما نستنهض به، فالقضية ليست غنوة بل مشعل أصالة ونهضةوإفاقة.


العودة إلى الهجرة


قد يفهم أحدهم أننا ندعو لإحياء المفرقعات وإبهاج السماء بالألعابالنارية، وهي طبيعة الكائنات القشرية، إننا لا نحتاج لإيقاد الشموعفي الخارج، بل إيقادها في الداخل، ففرق بين من يتعلق بالزينة ومنيتعلق بالمبدأ، الهجرة ليست مناسبة، بل محطة تحول، الهجرة دعوةداخلية لكل خير، ترك الظلام والاتجاه إلى النور، ترك الكسل والنهوضبالفعل، ترك التقليد واعتناق التجديد، التخلص من التبعية والتحليبالريادة.


يا صاحبي لماذا لا نربط رأس السنة الهجرية بجلسة تأمل؟ بقراراتشخصية؟ بخطوات تغيير جماعي؟ لماذا لا نكتب عهد قرار كل عام: “هذا العام سنهجر الكسل… سنهجر القسوة… سنهجر التردد…”. لماذا لا نُطلق حملة توعوية أو رمزية: “لا تهجر هجرتك”، فلنربط هذاالتقويم بأحداثنا، بنبضنا، بسائر شؤوننا، لا من حيث الشكل فقط، بلبالمعنى والمضمون والوعي.


الأثر والخلود


هل توقع المهاجرون أن هذه الهجرة ستؤرّخ، وتكتب كل يوم على سبورةالمدرسة؟ وعلى أول صفحات الصحف؟ ما كان يتوقع بلال الحبشي أوصهيب الرومي أو سلمان الفارسي أن يغدو اسمه منارًا خالدًا وإيقونةتكرر كل يوم، هذا التاريخ حقق الخلود من ذلك الأثر، فماذا عنك ياصاحبي؟ هل ستستضيء من هذا الدرس فتكون شعلة إنارة ومشروعحياة؟ أم أن الرسالة لم تصل بعد؟


إننا لا نتحدث عن الهجرة بصفتها تاريخًا أو روزنامة تمزق أوراقها معتقادم الأيام، إننا نتحدث عن إعادة الهجرة لحياتنا، نصدر بها وعيناوثقافتنا، أن ندرك جيدًا أن هجران الهجرة يعني هجرانًا لهويتناوحضارتنا ومستقبلنا.


يا صاحبي هل التحقت بقوافل المهاجرين؟ أم ما تزال واقفًا على قارعةالطريق؟ يا صاحبي لا تزال الهجرة ممكنة، ولم تنتهِ قوافل المسافرين،يا صاحبي الهجرة ليست أثرًا على وجه الرمال، بل هي وقع علىشريان القلب، الهجرة دماء داخلية تسير في الأوردة، فمتى ستحييهجرتك في أعماق وجدانك؟

الجمعة، 20 يونيو 2025

أدر مواقفك بحكمة

 





أنت الآن تصوغ حكايتك في هذه الحياة، وكاميرا التصوير توثق مسيرتك وتلتقط فيلمك الخاصّ، فالضوء الأخضر مُفعّل؛ فلمَ لا تبتسم؟ ابتسم وأدر مواقفك بحكمة.. للأسف، ليس أمامك إلا حياة واحدة، فاجتهد لتتألق بها وتتميز فيها، لتشع وهجًا ونضارة وأناقة.


شاشة الكاميرا تتكون من عدة بكسلات صغيرة تكوّن الصور والمشاهد، أما فيلم حياتك فعبارة عن عدة مواقف.. سلط الضوء على كل موقف بحياد ودقة، وابرع في تقديم الحكاية، واعلم أن الأواني الفارغة تحدث ضجة أكبر من الأواني الممتلئة، فليس الاعتبار بمقدار الضجيج الذي تحدثه حياتك، بل بما تحتوي من مواقف مليئة بالحكم والجواهر.


ضع أصابع يدك على معزوفات الواقع، ولنتدارس النوتة الواقعية باهتمام، لو انتشلك زائر الرحلة الأبدية وانقطع عملك من هذه الحياة، ما هي الإنجازات التي قدمتها؟ أأنت راضٍ عن حياتك، أم تحتاج لمزيد جهد لتنحت تمثال عطائك؟


لو دققت النظر في فصول حياتك فستجد فراغات لم تملأها بالشكل الجيد، وإليك الحكاية لتتضح لك الصورة. وقف دكتور جامعي أمام طلابه ووضع كرات البلياردو في وعاء فارغ، وقال: هل امتلأ الوعاء؟ قالوا جميعًا: نعم.. فأخرج لهم كيس حصى صغيرة وملأ فراغات الوعاء وقال: هل امتلأ الوعاء؟ قال الجميع: نعم؛ فأخرج لهم كيس رمل وملأ الفراغات في الوعاء، وقال: هل امتلأ الوعاء؟ قالوا: نعم.. ثم أخذ قارورة ماء، وسكبها في الوعاء ليسد الفراغات المتبقية!


إن هذه التجربة البسيطة تحثنا على دراسة أوقاتنا بعناية، لنعرف هل شغلناها فعلًا بالتدابير الصحيحة وبالترتيب الأصح؟ لماذا لا نتفكر في خطة العمل، ونعيد ترتيبها بدءًا بالأهم فالمهم، ثم نشغل وقت الفراغ بما هو مناسب؟ علينا مكافحة إهدار الدقائق المهملة، فهي أثمن رأس مال لدينا، علينا أن نعيد التفكير في إدارة أوقاتنا ومواقفنا الحياتية من أجل التصحيح للأفضل.


يُحكى أن صيادًا كان يلقي بالسمك الكبير في البحر ويحتفظ بالسمك الصغير!. هذه الظاهرة أثارت بعض المشاهدين، فلمّا ألقى عليه السؤال أحدهم مستفهمًا، كانت المفاجأة في إجابته العصماء، وهي أنّ المقلاة التي في حيازته لا تتسع إلا للحجم الصغير من السمك!


هذه الحكاية الطريفة تكشف عن سذاجة البعض، ولكن ألا نقع نحن في ذات المطب، وفي أمثال هذه الفخاخ بصورة مختلفة؟ لماذا لا نوفر لنا مُخْرجًا ينتقد المشاهد اليومية التي نعيشها قبل انقضاء الفيلم الذي نصوّره؟


النقد الذي ننزعج منه كثيرًا قد يميط اللثام لنا عن بعض عيوبنا، وقد نفيق على مواقف قاتلة نمارسها بشكل دوري، الملاحظات الأخوية نحتاجها بشكل مستدام لكونها تمثل دور صاعق الإفاقة. 


هل شاهدت ذبابة تروم الخروج من زجاجة نافذة مغلقة؟ حتى لو لم تستسلم هذه الذبابة ستوافيها المنية وهي تصارع للخروج، الأجدى بهذه الذبابة أن تبحث عن مخرج آخر، فقد يكون الباب مشرعًا ومفتوحًا وهي لا تعلم!


لننتقل إلى تجربة أخرى.. وُضع فأر في متاهة، ووُضع تحديدًا في زاوية بعيدة عن قطعة جبن، بذل هذا الفأر كامل المجهود حتى وصل لجبنته الشهية والتقمها. أعيدت هذه التجربة عدة مرات بوضع قطعة الجبن في مواطن مختلفة، وكان الفوز حليفه في كل مرة!


الخلاصّة أن الإصرار في مثال الذبابة ضرب من الجنون، وفي مثال الفأر مكسب وفوز، والحكمة المستقاة هي أن علينا أن نتأكد أننا نزاول العمل الصحيح في المضمار الصحيح.


من هنا جاء دور أهمية إعادة  التفكير في إدارة المواقف؛ ردود أفعالنا قد تكون خاطئة أحيانًا، وبعض العادات التي نمارسها قد تحتاج لتمحيص، فلماذا لا نُخضع الأفعال للنقد؟ يتحسس البعض من تدخل الغير بشؤونه رغم أن هذا التدخل قد يكون قارب الإنقاذ وطوق السلامة، فلماذا لا نتشبث بحزام الأمان؟


لقد قيل في الحكم: "هلك من ليس له حكيم يرشده"؛ وكثير منا هالك لفقدان هذا الحكيم المرشد.. كثيرًا ما يكون دور الصديق كشف العيوب، إلا أنّ الصداقات بدأت تتقلص عدديًّا، وغالبًا ما نفضل أن يلزم هذا الصديق قفص زنزانته ليبقى هو الصديق الصدوق الذي نهواه، لهذا عليه ألا يتخطى حدودنا الجغرافية ومجالنا الجوي، حتى هذا الصديق المخلص بدأ يلجم نفسه بلجام السكوت كي لا نتحفه بلقب معلب جاهز، مثل: متطفل، حشري.. وتطول القائمة.


والسؤال الجوهري الذي نطرحه: كيف لنا أن نكتشف الأخطاء العميقة دون أن توضع تحت مجهر التدقيق والفحص؟


إن حياتنا لا تزال مستمرة، وعدسة التصوير لا تزال ترصد العيوب المستدامة، فإذا أنفنا انتقادات الغير، فلنحذر التعجل والارتجال، ولنحسب المكاسب والخسائر قبل تنفيذ القرارات حتى لا تتوغل الكارثة.

الجمعة، 16 مايو 2025

اتّبع مسلك الناجحين!‎



قل لي كيف ترى نفسك، أقل لك من أنت أو ما ستكون عليه!

‎البعض لا يعيش الحرية في حياته، والتبعية تملؤُه حتى أخمصيه، لذا ننصحك أن تكون مستقلًا بذاتك، وألا تكون أداة بيد غيرك، يحركها كيفما شاء، ويتخلص منها وقتما شاء.. ركّز على ما تعتقده في نفسك، فالفرادة جوهرة التاج الذي توّجك الله به، فلا تحرم نفسك من تميزك، ولا تجعل شخصيتك نسخة كربونية لغيرك، فأنت أغلى وأنفس من أي حجر كريم.


نعود للنجاح، ونقول لك إن منطقة النجاح بعيدة كل البعد عن الفشل والفاشلين، فإذا لم تستطع تحديد الإحداثيات فتجنب المنطقة الموبوءة بحسك بالفشل، وكما أن النجاح مُعْدٍ فالفشل كذلك، لذا إياك أن تستمع لشخص يحاول إحباطك وجرّك للخلف، يلزمك ممحاة وقلم أحمر.. الممحاة لتمسح من ذهنك كل فكرة سلبية علقت برأسك، والقلم الأحمر لتشطب به على كل وسوسة تحاول إعاقتك.


والآن يا صديقي إليك السؤال: هل تعرف نقاط قوتك ونقاط ضعفك؟. ببساطة، عليك أن تضع نفسك في المُنخُل، فنقاط الضعف عندك عيوب ستبقى طافية في غِربالك، وعليك التخلص منها في أقرب فرصة، أما نقاط قوتك فهي مزايا ستنفذ من ثقوب المُنخُل وعليك المحافظة عليها، فهل لديك هذه المصفاة التي تفرز القشور والشوائب عن اللباب؟


ثقتك بنفسك جسرك للنجاح، وهذا النجاح بذاته جسر لثقتك بنفسك، كلاهما موصل للآخر، المهم أن تبدأ الآن لتربط الضفتين بجسر، فبإمكانك أن تسبق الآخرين لو أردت، وهذا السبق يلزمه طريق مختلف لتختصر به المسافات، وستصل لما لم يصل إليه أحد قبلك.


هل سمعت مرة كلمة مستحيل، ثم تحقق ما يقهر هذا المعنون بالمستحيل؟ إن لديك القدرة على كسر زجاجة المستحيلات، فمتى سيخرج المارد من قمقمك؟. قل لنفسك دائمًا: وجد المستحيل ليخترق، فلماذا لا يكون حلمك ذاك المستحيل الذي يستحق منك محاولة تخطيه أو الظفر به على أقل احتمال؟


همسة صادقة نسوقها إليك: لا تبتئس من بداياتك؛ فقد تكون الآن يرقة ضعيفة حقيرة، ولكنك بعد اكتمال الطور الذي تغرق به، ستكون فراشة زاهية تخلب الألباب!. فقط امنح نفسك وقتًا، واجعل الطبيعة تدور دورتها، فلن يأتي الربيع إلا بعد انقضاء ثلاثة فصول.


إذا أردت النجاح فاتبع مسلك الناجحين، وحتى نضرب لك مثلًا نسوق إليك ناجحًا لا اختلاف عليه، رغم ضعفه وضآلته!. إن الناجح الذي نعنيه هو النملة، فهلا تأملت كيف تدير حياتها؟ تأمل لعلك تجد ضالتك لديها.


النملة تكدح وتتعاون مع جيش عظيم من بني جلدتها لتكتمل تلك المستعمرة المليئة بالمدخرات، حتمًا لن تركع هذه النملة الضعيفة أمام صقيع البرد القارس، رغم هوانها وضعفها، لماذا؟ ببساطة، لكونها عرفت ضعفها وعرفت قسوة الحياة، واتخذت التدابير اللازمة لمجابهة الظروف القاسية.


فلماذا تتفوق نملة وتخسر أنت؟ ألست أكرم عند الله من نملة؟ إذا أردت الثراء فعليك بالادّخار والاستثمار، إذا أنفقت جميع دراهمك فستتبخر من راحتك الثروات، لهذا ضع نصب عينيك الحكمة: "احفظ قرشك الأبيض ليومك الأسود".


فلماذا لا نتعلم درس الادخار من حكمة النمل؟ جرّب ولو لمرة أن تكون نملة في تفكيرها، وستتغلب على الصقيع! جرّب ولو لمرة، فالتعاون والادخار والعمل الدؤوب بلا كلل ولا ملل هو بداية الطريق، كن نملة لعام واحد لتعلم الفرق بين النملة والصرصار، الذي يغني طيلة الصيف ويطرق باب الآخرين طيلة الشتاء!


إن ثقافة النملة أنقذت أمة، وهذا ما ساقه يوسف الصدّيق لعزيز مصر: {قَال تزرعون سبع سنين دأبًا فما حصدتم فذروه في سنبله إلَّا قليلًا ممَّا تأكلون}.. جرّب ادّخار ما لديك وجرّب عدم تبديد الثروات، اعمل وادَّخر، واقتفِ أثر النمل، في غضون سبع سنوات ستمتلك الحرية الاقتصادية التي ترومها.

ذات مرة شاهدت قطعة خبز صغيرة، هجمت عليها نملة مفردة لم تتمكن من حملها، وبعد ساعة تمكنت هذه النملة من نقل القطعة إلى مسكنها بمعونة فريق من الزميلات!. بصراحة، لا أعلم المماحكات والمحاصصات التي تم إبرامها بين هذا الفريق، ما أعرفه أن هذه النملة حصلت على مرادها، وأظن الجميع كسب من هذه الصفقة، المهم هو الدرس الذي نتعلمه، وهو أنّ من أراد أمرًا بلغه.


عفوًا، قد لا يكون الجميع بإخلاص النمل، هناك ذئاب لا تأكل بعضها بخلاف بني جلدتنا الذين يستمرئون أكل بعضهم، بالطبع ليس الجميع كذلك، ولكن الحذر واجب قبل فتح صندوق الانتخاب، احذر ممن له صوت الفحيح، احذر ممن يرتدي فروة الحَمَل، احذر أثناء دخولك عالم الاستثمار الذي قد يقودك للفشل، احذر من الطمع الذي تعقبه خسارة، فالادّخار أشرف لك من زيادة المال دون بصيرة.


كن كالنملة، تعمل كثيرًا وتدّخر أكثر مما تأكل، لتصحو ذات ليلة شاتية تستطعم أكل الكستناء.


9%86

احذر من العلاقات السامة



تصور أن أمامك رجلًا محترمًا تحسب له ألف حساب؟، هذا الرجل المحترم يهابه الناس، لهذا يخلقون الكثير من الحواجز النفسية لمخاطبته، ويغفلون عن كونه بشرًا.


‎هذا الرجل المهاب المتزن ذو الملابس الفاخرة سيتحول في لحظة إلى شخص آخر في ثوانٍ معدودة، إذا أهان شخصًا ما بصفعة، ردود الأفعال البشرية كثيرًا ما تكون طفولية وهمجية وملوّنة بتلاوين الحيوانات المفترسة، فالمناطقة حين يصفون الإنسان بكونه حيوانًا ناطقًا، لم يجانبوا الحقيقة، فلو جردته من ملابسه ولا حظته في أسوأ حالاته وغضبه، لن تفرق كثيرًا بينه وبين سائر حيوانات الغابة.


‎كثيرًا ما نشاهد الفرقعة البصرية حين يظهر الإنسان المتأنق على طبيعته الحيوانية البسيطة عند أتفه مشاجرة، لهذا يبتعد البعض عن التعامل مع الناس، ويقول: "اعتزال البشر مأمن، وفراق الناس عيد"، فكم من سلامة حليفة المنزوي، لما يصدر من الحماقات البشرية.


‎لهذا يعتقد الكثيرون أن الغنيمة في الابتعاد عن مصادر التوتر، والهروب من بؤر المشاحنات، فإذا لم تكن ضمن فرائس النزاعات، قد ينالك بعض الشرر، حينما تدنو قليلًا وتقترب.


‎فالحكيم يسحب رجليه عن مجالسة كل نَزِقٍ خَرِق لا يضع لنفسه لجامًا، وكل شخص عرضة للتعامل مع شخص ما هو بركان في صورة رجل، أو رجل حقيقته مصاص دماء في ثوب حمل وديع، إذ يتربص بك الدوائر وينتظر منك أقلّ ثغرة لينالك منه اللّهب ويلتهمك دون ملعقة!


‎ماذا لو عرفت أن دخولك في طريق ما سيوقعك في مصيبة قاتلة؟، هل تجرؤ على الدخول؟، الجواب العقلائي أنك حتمًا لن تخطو خطوة في ذلك المنزلق.


‎والتعامل مع بني البشر بمثابة الخوض في الممرات والطرق، بعض هذه الممرات مليئة بالزهور العاطرة والحدائق الناضرة، وبعضها الآخر مفروش بالأشواك وحساؤك السّعْدان والقاذورات، بمعنى أن هناك علاقات سامة، قد تدفع ثمن ارتباطك بها، لهذا عليك الحذر ثم الحذر قبل عقد هذه العلاقات.


‎يروى أن فتاة تسمى هديل تعلّقت بفتى أحلام اسمه خالد، كان خالد هذا نموذجًا ساحرًا في عيونها في بداية العلاقة، ومع الوقت أدركت أنه مجرد مرض لا تستطيع الخلاص منه، في بداية الأيام كان يقدم خالد لها الورد والهدايا مع ابتسامة واسعة تشي بأنه معجب بكل ما فيها، ومع الوقت أخذ يعرض لها مجموعة من النصائح الوديّة التي تحوّلت فيما بعد لانتقادات لاذعة أفهمتها بإحساس عدم الجدارة والكفاية، هذه كانت البداية ثم تضاعفت الأهوال حيث اتهمها بالخيانة!.


وكثيرًا ما كانت تكتشف أنه كان يتلصص عليها ويفتش في مقتنياتها بصورة مقززة ليضعها في قفص الاتهام، ورغم كل تصرفاته الهوجاء تلك كان يغلف هذا السجن بالحُبّ والحماية.


‎غرقت هديل في مستنقع الحزن ولفّت بها الكآبة السوداء وانعزلت في شرنقة الوحدة وشعرت بالاختناق من براثن زوج المستقبل حتى إنها فكرت بالانتحار لولا سماعها آية تخاطبها تقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)، على الفور أوقفت محاولة الانتحار، ثم أدركت أن مغزى الآية أبعد من ذلك، وهو الخلاص من هذا الزوج القاتل، فالقتل المعنوي أمرّ وأدهى.


‎طلبت المعونة من صديقة مقربة وشكت إليها الأزمة باكية، هنا بدأت لحظة التنوير وانفكاك حلقة العقدة، وقالت لها بالحرف: "ابتعدي عن كل علاقة سامة، فأنت تستحقين الأفضل"، وبصعوبة بالغة تمكنت هديل الخلاص من هذا الشبح الذي يفري أوداجها على مهل.


‎هذه القصة الواقعية قطرة من ملايين العلاقات السامة التي تصيب مجتمعاتنا وأسرنا، تستهلك منا الطاقات وتغيبنا في دوامات نفسية صعبة لشهور وسنوات، فمتى سنوقف هذه العلاقات الخطرة؟


‎لو رجعنا لسجلات الجرائم كوقائع القتل والاعتداء، لوجدنا أن الباعث الأولي لها تافه من التوافه، هذه الشرارة البسيطة توافقت مع وجود شخص متهيّج نفسيًا وعصبيًا نستطيع أن نسميه لغمًا بشريًا قابلًا للانفجار.


‎في مرّة من المرات دوّى في الصحافة مصرع بائع سندويتشات في بوفيه محلي أشهر عليه أحد الزبائن سكينًا وأنهى حياته في غضون ثوانٍ بالسلاح الأبيض، وثّقت كاميرا هذا المحل بداية النزاع، وانتشر هذا المقطع كالنّار في الهشيم. السبب الظاهر ليس الشرارة الحقيقية لذلك المصرع المفجع، بل هذه النفس البشرية القابلة للتشظي والفتك.


‎البعض يرجع العوامل لما تكتبه المفاجآت، ويغفل أننا ضمن حلبة هذه اللعبة وأحد مسببات هذه الكارثة، فمن يسحب فتيل القنبلة لن يسلم من دفع الثمن، في مرَّة من المرات أثار أحدهم حفيظة شخص فألقى الأخير عليه الشاي فلوث ملابسه، قد تكون عاقبة هذه الحادثة محتملة، وقد تفرز تشوهات مستدامة لا علاج لها إذا كان القدح ساخنًا.


‎نستطيع سوق جملة من نصائح التعامل مع الآخرين لتقليل الأضرار منها: الحذر من الغرباء، وتقنين التعامل مع الفئة المقهورة، وتحاشي الحديث مع الفرد الغاضب، والترفع عن المزاح مع من لا يستطعمه، فرب مزحة صغيرة ولدت وقائع كبيرة.


‎فهل يدرك صاحب السيجار خطورة مروره بمنطقة التسريب الغازي؟، لا تتعجب لو أبصرت مشهدًا يُتَداول لسيجارة بسيطة ولدت حرائق كارثية، فلماذا نستصغر مستصغرات الشرر؟، وما النار العظيمة إلا إحدى نتائجه.

الخميس، 20 مارس 2025

الصدقات وعجائب تُرْوى




هل ضاع منك مبلغًا من المال وشعرت بالأسى؟ هل خسرت بعض مالك ذات يوم؟ هل تذوقت مرارة النفقة على أمر لم تجني منه أي فائدة؟ الحياة تضعك على محطات الفقد بشكل أو بآخر، الحديث يرتبط بالإيمانيات والمعتقدات، وتحديدًا في أمر الصدقة، فهناك معتقد لدى الكثيرين يصرح أن الصدقات تنمي المال وتجنب الخسائر، البعض يدفع صدقة قبل أن يبدأ في مشروعه أو أي أمر يهمه، البعض لا يضع أقدامه في سفر دون أن يخرج من محفظته بعض الدراهم، يعتقد الكثير في أهمية الصدقات في دفع المكروهات وجلب المنافع والخيرات، سمعت الكثير من المواقف وقرأت الكثير من الحكايات التي ترغب في دفع الصدقة، حتى أن البعض يروي آثارًا عجائبية عند دفع مبلغ زهيد لفقير أو محتاج، البعض يقول: "إنفق بعض ما لديك وتأكد بنفسك".


البعض يقول متهكمًا: "ما ضرك لو دفعت بعض القروش الزهيدة لتجنبك خسارة متوقعة أو غير متوقعة"، والخسائر على أنواع واحدة منها الخسائر المالية، فقد تخسر في صفقة تجارية أو معاملة بنكية أو تقع فريسة مخالفة مرورية أو يتعطل لديك جهاز لم تحسب له حسابًا، والأمثلة لا حصر لها. يقول التابعي الشهير سعيد بن المسيب مخاطبًا نفسه: "ماذا فعلت؟"، حينما عثرت به دابته، أي أنه يرى أن عثرات الفرس والدواب مرتبطة بأفعال صاحبها، هكذا يعتقد وكأنه يفرغ عن معنى الآية التي تقول: (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّـهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ).


كثير منا لا يتفكر فيما تؤول إليه الأمور، فهل تعرفنا على جواهر المسببات ومباعث تكونها؟ ألا يعقل أننا السبب الأساس في تراكم كثبان المصائب التي نتعرض لها كل يوم؟، ماذا إذا كان غياب البشاشة والعبوس في وجوه من حولك له ثمن ويترتب عليه بعض الكوارث؟


هناك رأي يعتقد به البعض أن سوء تعاملنا مع الغير له فواتير باهظة من صحتنا وثروتنا وتطول قائمة مستردات الديون، سؤال عفوي نطرحه عليك: هل الذنوب والمعاصي تبدد النعم؟ وتحجب البركة؟ وتحرمنا من توافر الرزق؟


تحدثنا سورة القلم عن حكاية أصحاب الجنة الذين اتفقوا على البخل بما في أيديهم فأصبحت جنتهم كـ (الصريم)، والصريم هو الليل البهيم المظلم. في حكاية واقعية يدخل أحدهم فجأة غرفة والدته فيسمع هذا السؤال: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّـهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً)، في البداية ظن أن هذه الآية صدحت مصادفة، لكن التسجيل كرر عليه ذات الآية، وكأنها تخاطبه، فقال على الفور: "أنا يا رب"، لكنه نسي دفع الصدقة، فلما رجع لأمه سمع آية أخرى تخاطبه: (وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً)، فاقشعر بدنه ووقف شعر جسده وقال: "حالًا وفورًا"، ومن هنا بدأت رحلته مع دفع الصدقات. نهاية الحكاية أن راتبه تضاعف ثم تطوّر عمله ليربح خمسة أضعاف ما كان يجنيه.


حكايات البر كثيرة ولعل كلّ واحد لديه حكاية يرويها، سمعت قصة تقول أن أحدهم رجع إلى وطنه ليكتب وصيته بعد أن عرف أنه مصاب بمرض خطير، ومن خلال نافذة منزله شاهد امرأة تجمع العظم الملقى في الطريق من أمام محل بائع اللحم، فاندفع يسألها عن هذا الصنيع المستغرب، فأجابته أنها امرأة أرملة وفي رعايتها ستة بنات، ومنذ عام أو يزيد لم يتذوقوا طعم اللحم، وكانت تصبر عيالها بالعظم والشحم، فسخى عليها بدفع قيمة اللحم لمدة عام، فتبخر عنه المرض الذي كان يؤرقه! 


السؤال الذي نطرحه: هل للصدقات أثر في مداواة المرضى؟ أم هي محض تخرصات؟ لننقل قصة أخرى لمرأة أخرى فقيرة متسولة ترمق بعيونها السماء وتنتظر من الله الرحمة، نهضت هذه المرأة واختارت رجلًا محددًا ومدّت إليه يدها مستجدية، هذا الرجل لم يكن في محفظته إلا ورقة نقدية واحدة من العيار الثقيل والذي لا يجرأ على دفع نصفها لسائل الطريق، فكيف يدفعها بأكملها؟ 


فلما أدار لها ظهره منصرفًا حثه شيء ما  بداخله أن يلقي نظرة على المرأة قبل المغادرة، فوجدها ترمق السماء بضراعة، هنا رقّ لها قلبه وقرر أن يدفع الورقة النقدية بأكملها، وبالفعل دفعها دون أن تطرف له عين أو يرف له جفن، وهي بدورها لم تنظر لما وهبها الرحمن، فقط تمتمت بالخير له، ورجع إلى منزله، في اليوم الذي يليه حَدَث ما لم يتوقعه، تبدلت أموره الاقتصادية رأسًا على عقب، الأسهم ارتفعت والصفقات نجحت وأدرك من فوره أنه تحت عناية الله فخر له ساجدًا شاكرًا، فلم يبصر في سجوده غير تمتمات تلك المرأة التي تصدقت عليه ببعض دعواتها، وفارق كبير بين ما دفعه لها وما وهبته له.


هل جربت أن تنفق بعضَ ما لديك؟ هناك إدعاء يقول: "المنفق يكسب أضعاف ما أنفقه"، هذا الإدعاء يحتاج لتجربة وإليك يعود القرار، أحدهم أنفق من ماله على قطط صغيرة ليس لها أحد، فوهب الله له أمه التي شارفت على الرحيل، العجيب أن هذه الأم روت لابنها أنها رأت في منامها قطط صغيرة تدعوا لها، فهل هذه مجرد مصادفة؟

الأربعاء، 26 فبراير 2025

أرواحنا والأحجار الكريمة




تميزت عدّة من الأحجار عن سواها، لجمالها وجوهرها الثمين، فأطلق عليها اسم (الأحجار الكريمة)، وما حقيقتها إلا مجرد حجر، لكن المثقال اليسير منها يُحْسب له قيمة. من تلك الأحجار القيمة التي تباع وتشترى: (الماس، والعقيق، والزبرجد، والفيروز، والزمرد، والياقوت، وسوها)، هل سألت نفسك يومًا لماذا كانت هذه الأحجار لها يقيمة مادية؟ وتحفظ في صناديق مغلقة؟ ولها سوق يتنافس عليها باعة الجوهر؟، وبقية الأحجار تلقى في قارعة الطريق ولا يُعَار لها أي اعتبار؟

باختصار الأحجار الكريمة مميزة وتختلف عن بقية الصخور والحصى، حتى هذه الأحجار النفيسة يختلف سعرها عن غيرها من ذات النوع وذات الصنف، باختلاف التركيب، فالتجاويف والشوائب تقلل من قيمتها، وكلما زاد النقاء ارتفع الثمن، والعكس صحيح، حديثنا ليس عن هذه المجوهرات، بل عن شيء آخر نعرضه الآن، وهو أن هذه النفس البشرية، كالحجر النفيس، والأعمال التي يفعلها المرء تنعكس على هذه الروح التي بين جنبيك خيرًا فخير، وشرًا فشر، لهذا قد نجد بشرًا من نوع خاصّ مجرد النظر إلى وجوههم ترتاح لهم الأفئدة وتطمئن لمحياهم النفوس وكأنما هذا البشر في جوهره ما هو إلا ملاك يسير على الأرض، وعلى النقيض تمامًا قد نرى بشرًا آخرًا تنفر منه النفوس وتستوحش وتشمئز لمطالعته وكأنما لا نرى أمامنا إلا مجرد شيطان رجيم والعياذ بالله!

فما هو السر الذي يجذبنا لهذا وينفرنا من ذاك؟، لماذا ننسحر لهذه الروح وكأن مغناطيسًا يسحبنا إليها، وعلى النقيض ذلك الذي لا نراه إلا إبليس اللعين، هل هناك سر يميز أحدهما عن الآخر؟ البعض ينهمك في العبادة فلا نرى على محياه ذلك الأثر النوراني، ولربّ مُقل نرى الإنجذاب إليه والارتياح!، هل وراء ذلك من سر؟ يتفق الجميع أنّ الاعتبار بالكيف لا بالكم، فلتكن أعمالنا كيفًا، مع ذاك يصر البعض على الكميات دون النوع. روي في الأثر أنّ عابدًا عبد الله خمسمائة سنة فدخل النّار، بينما صحابي لم يصل في حياته ركعة واحدة، قال عنه النبي: “إنّه لمن أهل الجنّة”.

البعض يظن أنّ ورود الجنّة بكثرة الأعمال، بينما نشاهد نماذج كثيرة تفصح أنّ الجزاء ليس بالكم، إنما بالكيف. الخلاصّة المستوحاة أنّ الله لم يخلقنا ليجهدنا في عبادته، فما يصنع بعبادتنا وهو الغني المطلق؟، لم يخلقنا ليربح علينا، إنما خلقنا لنربح عليه، وذلك متحقق بالقليل من العبادات. فرب ركعة؛ خير من آلاف الركعات، فكيف نصحح المسار؟

لقد خلقنا الله وقد وهبنا ماله واستقرضنا إياه، ومع ذلك يضاعف لنا الواهب الموهوبات: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). هناك من الصالحين من يستهدف صلاة مائة ركعة في اليوم الواحد، فهل فكر هذا العابد تأدية صلاة الخاشعين؟!، إنّ صلاة الخشية، هي المطلوبة، وهي الكنز الذي غفلنا عنها، وهي تلك الصلاة التي بالفعل تنهى عن الفحشاء والمنكر. السؤال: ما فائدة الصلاة إذا تجردت من روحها؟، ما فائدة الصدقات إذا استهدفت التفاخر والرياء؟، إنّ الله لا ينظر إلى كثرة الأموال أو قلتها، إنما ينظر إلى القلوب التي تهب الصدقات وتغيث الملهوف، فالأعمال بالنيات.

ولنا في قصة ابني آدم قابيل وهابيل خير موعظة، حيث يتجلى لنا درس التقوى، وإنّه من الأسس الهامة لقبول الأعمال، قال تعالى على لسان هابيل: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، وفي غير محل تركّز الآيات على هذا البعد: (وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ)، (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)، وهنا نطرح السؤال: لماذا نجرد العبادات من محتواها القدسي، ونتمسك بالقشور؟

ربّ فقير يدفع درهمًا واحدًا، خير من ذلك المتبجح الذي يدفع أطنان الذهب، هل نعي خطورة الأمر وفداحته؟، ربّ مبلغ زهيد نفع، وربّ مبلغ كبير أضر وأسخط، فما هو الاعتبار؟، الجواب في الآية الآنفة: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، إذًا الإعتبار بالكيف لا بالكم. يقول تبارك اسمه: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء)، إذًا لا فائدة من الزبد الخالي من المحتوى، ما يصنع الله في اللحوم والأضاحي والدماء الكثيرة باهظة الثمن؟، المطلوب أن يتحرك هذا الوجدان للمعاني النبيلة، السؤال الجوهري: لماذا نحتبس بين جدران الطقوسية؟

إنما الهدف بلوغ التقوى التي تفتح بوابة الصفاء والإنشراح، وحالة القرب من الله. فربّ كلمة خفيفة على اللسان هي ثقيلة في كفة الميزان، إذا حملت المعاني الرفيعة وأثرت في صاحبها. لهذا لزم الصدق في القول والإخلاص في العمل وتطهير النية.

ما فائدة التبتل الطويل والقلب ساهٍ لاه؟ ربّ ركعة أدخلت صاحبها الجنّة، وربّ سجدة أسكنت مؤديها الفردوس. فلماذا لا نركّز على الكيفية؟، ونغرق في (كاف) الكم. الكم جيد، ولكن الاعتبار بالكيف. لهذا يتبخر العمل ويتحول لرماد، إذا خالط العمل (راء) الرياء. لهذا ورد: “أنا أغنى الشركاء عن الشرك”. والنصيحة المميزة الخالدة إذا اهتم الناس بكثرة العمل، فليكن همّك إجادته والخلاص فيه. فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش؟، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب؟

نعود لحديث الأحجار، وقبل أن توضع روحك في الميزان، عليك أن تتفكر أي حجر كريم تنوي أن تكون، وعلى هذا النهج تحرك وكن متميزًا في قولك وفعلك وفي  نواياك، فالحجر النفيس ينافس غيره بما يحتوي من جوهر أصيل، فشكّل روحك لتكن ذلك المَلاك الذي ينجذب إليه الجميع ولا تهتم بالقيل والقال، فالجوهر يُعلى ولا يعلى عليه.

الثلاثاء، 18 فبراير 2025

صياد بطريقة عجوز "أرنست همنغواي"




ليس كل إنسان يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، البعض يعيش حياة الشقاء وشقاوة الحياة، منذ بواكير أيامه ونعومة أظفاره، الحياة تحتاج لصبر وإصرار لبلوغ المرام.. وإليك السؤال: هل قرأت الرواية النوبلية "العجوز والبحر"، للأديب العالمي أرنست همنغواي؟

إذا كنت قرأتها ستدرك المعنى فورًا، وإليك التفاصيل لتكون في الصورة.. هذه الرواية ذائعة الصيت تسحبك إلى الغوص في عمق البحر، تنقلك إلى ذلك المركَب المعدّ للصيد. ستقذفك السطور إلى ذلك القارب الشراعي البسيط الذي تراقصه الأمواج.

والآن، أغمض عينيك، وحلّق بخيالك لتعايش لحظات خاصّة في عروق أعصاب ذلك الصياد العجوز، الذي راهن عليه المؤلف لحصد جائزته الخالدة، هذا العجوز – بطل الرواية – لديه إصرار من فولاذ لاصطياد سمكة بحرية خرافية تحوم في أسفل الماء!

أغمض عينيك أكثر؛ لتعيشَ تلك اللحظات الطويلة، وأنت تكافح مع الموج والرياح، وتقاوم دوار البحر. إذا عشت أجواء الرواية بالشكل الجيد، فستجد نفسك أنت ذلك الصياد العجوز، وأمامك مسؤولية شرف، وهي اقتلاع السمكة الضخمة من محيطها، وستقول في أعماقك عبارة التحدي الشهيرة: "أكون أو لا أكون".
أحسب أن أرنست همنغواي حول جائزة نوبل التي ينوي الظفر بها، إلى سمكة ضخمة يصعب انتزاعها، هنا تحوّلت روح أرنست همنغواي إلى روح ذلك الصياد العجوز المكافح، الذي يخطط لاقتلاع السمكة من عالمها.
إنّ قوة الأسلوب السردي في هذه الرواية جعلت من همنغواي أستاذًا رائدًا على عرش الرواية الحديثة، ومن يقرأ الرواية بتمعن سيلحظ عنصر "الرمزية" في التخوم، فـ "سانتياغو" -الصياد العجوز- يقاتل أسماك القرش الشرسة، وينافح للسيطرة على سمكته العملاقة؛ ليعيد لمكانته المهنية الشرف.

نستطيع أن نقول إن همنغواي حوّل منافسيه الأقوياء إلى أسماك قرش مفترسة، تستهدف الهدف الشرفي الذي أقسم همنغواي أن يحافظ عليه كوسام شرف، بؤرة دقيقة يمعن همنغواي فيها عدسته، ويضع الهشاشة البشرية أمام محك صراع الإنسان والطبيعة القاسية، والنزاع الصارم المستميت.

تتعملق عقدة الرواية أكثر في تلك اللحظة الدراماتيكية، حين تتقافز أسماك القرش على سمكته الجبارة، فتتخذها وليمة طازجة لا تفوّت. هنا يرى سانتياغو فريسته تؤكل أمام ناظريه دون أن يتمكن من إنقاذ لحمها الطري، تتبخر السمكة العظيمة، كل ما تبقى منها هيكلها العظمي فقط: عمود فقري ورأس وذيل، لن يصدق أحد روايته التي ستعيد له شرفه الضائع، إلا بالاحتفاظ بهذا الدليل المادي – وإن كان مجرد عظم – لكونه سيخرس الأفواه المشككة.. مؤسف جدًا ألا يصدق أحد ادعاءك الحقيقي، مؤسف جدًا أن تحتاج لهذه العظام كدليل مصداقي لإثبات صحة روايتك الحقة.
وبعد رحلة أسطورية طويلة، وصل سانتياغو إلى الشاطئ متعبًا منهكًا لا تعرف عيناه طريقًا إلا إلى السرير، ألقى بالعظام العملاقة على الساحل، وهكذا صدّق الصيادون مقدرته، وأنه مثال لذلك الصياد المخضرم الذي تنحني له الرقاب، وترفع لأجله القبعات.

في هذه الحياة أنت في معركة بحرية، بالطبع ليست معركة ذات الصواري، أو لنقل ذات الصواري بصورة مختلفة، بطريقة هذا الصياد العجوز، الذي ابتكره همنغواي من رحم معاناته مع غرمائه لبلوغ أحلامه الروائية!. فهل تستطيع إثبات مقدرتك ووجودك كما فعلها همنغواي؟
الناس لا يصدقون المزاعم، وإذا أردت أن تحفر اسمك على جبين التاريخ، يلزمك سمكة عملاقة لتصطادها.. قد تختلف هذه السمكة من فرد لآخر، ولكنك تحتاج لذلك الهدف الكبير، كما تحتاج لصبر معياري تتجلى فيه مقدرتك وعزمك، تحتاج أن تتفوق على أسماك القرش، تحتاج لقوة وإرادة حديدية لاقتلاع سمكتك العظيمة. ثم يكون لزامًا عليك الاحتفاظ بها – ولو في صورتها العظمية الهيكلية – لتثبت للجميع أنك فعلتها.

حينها ستُعْرف مقدرتك، وقد تعرض سمكتك الشخصية في متحف يدوّن تحتها اسمك، لتبقى مقدرتك مسجلة تعترف بها الأجيال.

الأربعاء، 5 فبراير 2025

بين النحلة والذبابة!

 


الإنسان في رحلة الحياة نحلة أم ذبابة؟ إليك البيان بالتفصيل.


لقد خلق الله الكائنات، ومن ضمن ما خلق الحشرات، ومن أشهر الحشرات المعروفة والمألوفة النحلة والذبابة. ورغم أن لكلتا الحشرتين مزايا فريدة وتراكيب معقدة، فإن لهما معاني فارقة.. إحداهما ترفع المنعوت بها فوق السماء، والأخرى تحط بالموصوف بها في درك الحضيض!.


إياك أن تقول لأحدهم: "أنت ذبابة"؛ فهي شتيمة لاذعة في نظر الجميع، بينما سيسعد كثيرًا من تنعته بالنحلة، رغم أنهما حشرتان طائرتان متقاربتان في الحجم.. فما الفرق بينهما؟ ولماذا كان النعت بالأولى مسبة وشتيمة وبالثانية مديحًا وثناء؟


تسقط الذبابة على القاذورات عادة، وتسبب الأمراض، وهي من أخطر الحشرات نقلًا للأوبئة، ومن أبرز الأمراض التي تسببها الذبابة: (التيفوئيد، والكوليرا، والجمرة الخبيثة، والجذام، وداء الليشمانيات، والدوسنتاريا، وغيرها).. في بعض المصادر أن الذبابة تنقل 200 نوع من البكتيريا، البعض لا يحتمل مظهرها القبيح والمقزز، والبعض تأقلم مع وجودها وقد يهشّها أحيانًا برفق غير مكترث لوجودها من عدمه.


بيد أن بعض الباحثين ينبه على خطورتها، وأنها تتقيأ بصورة دائمة على طعامك، ثم إنها تستطيب الأماكن القذرة، فتهبط على العفن وكل مستقذر يأنفه الذوق السليم، البعض يتهاون مع الذباب، علمًا أن بعض العلماء يحذر منها، حيث يقول عالم الحشرات "رون هاريسون": لا يحتاج الذباب لنقل جراثيمه إلا للمسة بمقدار ثانية واحدة، لهذا يحذر من تناول الطعام الذي يبيعه الباعة المتجولون، فإذا شاهدت ذبابة تحوم فتوقع أنّ الجراثيم مهيأة للانتقال إلى معدتك. بعض الذباب لحوح لجوج، وكأنه يتعمد إيذاءك وإزعاجك، لا سيّما في فصلَي: الصيف والربيع.


أما النحلة فهي صانعة العسل، العسل الحلو طيب المذاق، بما يحمل من لذة وشفاء للناس، وقيمة غذائية متفق عليها.. النحلة طيبة لا تحط إلا على الورود والطيبات، تعمل بجد لجمع الرحيق، ولا تتوقف حتى تكتمل الخلية وتملأها بالشمع والعسل المصفى، ورغم وجود شوكتها الدفاعية فإنها تذكرنا بكل العناوين الخيرة، العمل والإخلاص، الورد والرحيق، العسل الشهي الذي يمدنا بالطاقة والحيوية والشفاء.


النحلة لها العديد من الفوائد، سواء على البيئة كدورها البارز في التلقيح النباتي، أو لما يتحصله الإنسان من منتجات غاية في الأهمية، ومما تنتجه النحلة للبشر الشمع، والعسل، والعكبر، وغذاء الملكات.


فلماذا الحديث عن هاتين الحشرتين؟. نستطيع قراءة كل حشرة قراءة مسطحة، ونحفظ المعلومات العلمية لكل صنف وكفى.. غير أن الأهم هو القراءة الأعمق، لبلوغ أغوار المعاني المستفادة من درس هاتين الحشرتين. فماذا نستفيد؟ على الواحد منا أن يتأمل حياته جيدًا، ويقيّم تصرفاته بموضوعية؛ أهو ضمن عالم الذباب اللعين، أم في كرنفال راقص برفقة الملكة المكرمة؟


أي نوع نحن في الحقيقة؟ أنقدم الفائدة لأنفسنا وللآخرين كما تصنع النحلة، أم نزاول الأذية بكل فنونها وأشكالها؟ البعض يضر نفسه باستخدام المواد الضارة كالتدخين والمخدرات وإنتاج عوادم السيارات والمصانع، وإلقاء النفايات في البحر والطرقات وغيرها، وهذا هو دور الذبابة.. فمتى سنوقف الوباء؟ بينما نجد آخرين دورهم دور النحلة، يعطرون الأجواء بزراعة الورود وتشجير الحدائق، ونشر الطاقة الإيجابية، في كل مكان.


نتعلم من درس النحلة والذبابة فن الابتعاد عن الخصال الذميمة، كالكذب والسرقة والاحتيال والتعامل الفظ الخشن، وإحلال كل محمود بالتعامل الطيب وإلقاء التحية ونشر الابتسامة.


إننا نتعلم من هذا الدرس بذل النشاط القوي في كل خير، وصرف المنفعة الجزلة لكل المحيطين، لأنفسنا وللبشر ولسائر المخلوقات والكائنات، ورفع الأذى وتحاشي الوقوع في بؤرة الشر.


لا نحتاج لتقييم الآخرين ولا داعي أن يصفنا أحدهم بالنحلة أو الذبابة؛ فالإنسان أبصر بطبيعته، والمهم هي الحقيقة التي تتشكل بها شخصيتنا، لا مجاملات الآخرين وشتائمهم.


البعض حقيقة هو نحلة بالفعل في كل فصول حياته، والبعض الآخر – مع شديد الأسف – لا يتقمص إلا قميص الذباب، فالإنسان حيث وضع نفسه، فلماذا لا نجعل هذا الكوكب يدوّي بفيالق النحل، ويترفع عن الانخراط ضمن جيوش الذباب الضار؟، ما أجمل أن يكون الواحد فينا نحلة بكل المقاييس التي تبعث على الفخار.

الثلاثاء، 21 يناير 2025

اصنع من الحصى بيتًا

 



الحكايات الخرافية قد تكون واقعًا، والأحلام المستحيلة قد تتحقق!. لمَ لا؟. فلنجرب قراءة هذا المقال، ولنتحقق: هل بالإمكان صناعة بيت من الحصى؟


وإليك هذه الحكاية.. حين عجز أحد القادة عن فتح مدينة محصنة منيعة شاهد نملة تصرّ على حمل شعيرة، فانقدح في رأسه الإصرار حتى نال مطلبه! إن شرارة ذلك الفتح الكبير نملة صغيرة مع برهة تأمل، فلماذا لا نتفكر قليلًا لنحقق المعجزات؟


أدهشتني قصة في كتاب، ولا تزال حكمتها تدوّي، وهي أن صائغًا لاحظ أن برادة الذهب تتساقط على الأرض، ثم يأتي عامل النظافة ويكنسها، ويلقي بها في القمامة، هنا صرخ هذا الصائغ في أعماقه حين لمعت في عقله فكرة طازجة، فتحرك من فوره وجلب فرشة خاصة، وأخذ يكنس البرادة نهاية كل يوم، ليصنع من نُثار البرادة ثروته.


السؤال الحقيقي الذي نود طرحه هو: أيهما أثمن وأهم؛ وقتك الضائع أم برادة الذهب؟ كثيرًا ما نشتكي من قلة الوقت، ونحن نبدد دقائق أعمارنا يمينًا ويسارًا، أحدهم أنهى قراءة عدة كتب في لحظات انتظار إشارة المرور المزعجة، فكم من الوقت أهدرنا في قاعات الانتظار؟


أعجبتني فكرة وضع كتب في صالون الحلاقة وغرف الانتظار، لكن المؤسف أن الأيدي لا تصل إلى هذه الكتب، بل إن لدى كل شخص ثروة ثمينة هي جهازه المحمول، فهل أحسنا إدارة الوقت المهدور؟ نقول: اصنع من الحصى بيتًا، ووقتك الضائع لو تم جمعه بطريقة جمع برادة الذهب، فإن دقائق الانتظار ستتحول إلى ساعات.


أعجبتني عقلية جامع الخردة، يجمع ما لا يرغب به الناس، ليصنع من الركام ثروة.. كلنا يشاهد أن الشعوب المتقدمة تقرأ على متن القطار والطائرة، يقرؤون في أثناء أسفارهم وفي أوقات انتظارهم، أما بنو جلدتي فيتثاءبون بعيون دامعة كسلى، وهم يعيدون السؤال ذاته عدة مرات: متى سنصل؟. كلنا يمتلك 24 ساعة في اليوم، فهل استخدمناها بكفاءة؟ المدهش أنّ الأخ المتثائب يشتكي قلة الوقت!


إنّ أغلب الشعوب العربية لا تحسن إدارة وقتها، ولهذا تخلفنا وتقدم الآخرون، الوقت ساعة رملية، ومع انتهاء آخر ذرة تنتهي أعمارنا، لنقرأ كتاب “التأثير المركب”، للمتحدث التحفيزيّ الكاتب الأميركي دارين هاردي، وكتاب “العادات الذرية”، لخبير التنمية الذاتية الكاتب الأميركي جيمس كلير، لندرك ما تصنعه الدقيقة في حياتنا.


المقال الذي بين يديك ليس مهمًا إذا لم يحرك فيك ساكنًا، اشرب الشاي وشاهد ما يثلج الصدر، ودع ما كان على ما كان إذا أردت.. يعجبني من لا يكمل المقال لكونه فهم القصيدة من مطلعها، ففكرة المقال قائمة على أن الأجزاء تكوّن الهدف، والخطوات توصل للغايات، فأين هدفك؟ ولماذا لا تسعى؟


كلنا قرأ قصة الثعلب القاضي مع جبنة القردين المتخاصمين، بمكره أخذ يأكل من الجبنة حتى أتى عليها.. الثعلب المكار ذاته يغري غرابًا بالغناء، ليظفر بالجبنة التي في فمه، فلماذا لا نمارس حيلة الثعلب مع أوقاتنا الضائعة؟ مائة ريال إذا نقص منها ريال واحد لا تكون مائة، إنه تأثير الجزء الضئيل، القطرة المتوالية تشرخ الصخر، الحبل الضعيف يؤثر في حافة البئر، وقطرات القراءة التي تمارسها بين الحين والآخر، تشكل ثقافة في صندوق الجمجمة.


لقد أدهشني بائع كتب يدمن القراءة حينما تحدث، لم يضيِّع وقته في انتظار الزبون، بل جعل من دكانه مكتبة للقراءة، والأمر الطارئ محاسبة الزبائن، النتيجة أنه أصبح مكتبة صوتية متكاملة إن تكلم، ولا غرابة أن يكون كذلك ما دامت عادته مرافقة العلماء من خلال بساتين علومهم وكتبهم.. المؤسف أن لدينا كتبًا شهية وملونة، وذات قيمة ممتازة، ومع ذلك لا نحرك ساكنًا، نحتاج فقط إلى عملية الانضباط والإصرار على الهدف.


تذكر قصة إصرار النملة في حمل حبة الشعير إلى بيتها، واجعلها لك منهجَ حياة.. اقرأ كل يوم صفحة واحدة، أو ضع لك خمس دقائق لمطالعة كتاب، وستندهش من العبقرية التي حققتها، الثقافة كالثروة.. كن مدخرًا درهمًا كل يوم لتجني جرة الذهب في الختام، ومن يقرأ كل يوم فسيكون مكتبة متنقلة عما قريب، وسيدهش قُرّاءه ومستمعيه!


فقط داء واحد ينبغي عليك محاربته، هو الكسل.. فقط ثمرة واحدة نحتاجها بإلحاح، هي الالتزام على الخطة.. حينها سنصنع من الحصى بيتًا.