السبت، 24 فبراير 2024

الفقر في مختبر الكيمياء

 


هل بالإمكان أن نضع الفقر في مختبر الكيمياء؟، علمًا أنّه خارج أسورة المادة ومدركات الأجرام، لماذا ننتخب الفقر تحديدًا دون غيره؟، نظن أنّ الفقر اليوم أصبح حديث الساعة، فهو يمثل أزمة إنسانية لشعوب العالم، فهل هناك حَلٌّ لهذا الوحش الضاري الذي ينهش ويفتك ويهشم العظام؟، هل هناك حيلة حقيقية لتحويل الفلزات الخسيسة لفلزات نفيسة؟، هل بالإمكان العثور على ذلك الحجر الأسطوري ذو المسحوق الأحمر الذي يحيل الرصاص إلى ذهب وفضة؟، هل لحجر الفلاسفة مكان في عسقلان أو في صحاري أفريقيا أو في إرم ذات العماد؟، هل لأكسير الحياة وجود؟، وكيف لنا استجلابه لإنقاذ ما تبقى من رماد الشعوب المسحوقة؟ 

لو كان الفقر رجلًا، لو كان الفقرُ قطعةَ خشبٍ أو فولاذ، لو كان الفقر مادة تعالج في مختبر الكيمياء؛ لتمكنا من إذابته في أفران ابن حيان ومذيبات أنطوان لافوازيه، لو كان الفقر كائنًا يُمَسُ أو يُمْسَك لأذبناه وأسلنا كثافته كما أُسِيْلَ لسليمان (عَيْنُ القِطْر)، صحيح أنّ للحرارة والضغط أثر على الكثافة الكتلية والقوة الداخلية الجزيئية للمواد، لكن كيف للمعنويات والمجردات أن تُحيّز وتُأطر بإطار؟، فضلًا على أن تقيد في بوتقة معمل أو أنبوبة اختبار. 

الفقر فقّس وفرّخ، وانتشرت حول الشعوب أجنحته الفارعة، الفقر أمسى توأم الأرواح والأجساد والأكباد، فما حيلة الفقير الذي لا يجد ما يسد رمقه؟!، هل يحتفظ الفقير بكرامته في هذا الدهر؟، الذي أمست فيه معظم الأسر بين حجري رحى؟!، يدعي (ابن الأحنف) أنّ الكلاب لتميز الفقير من غيره، وتتعامل معه بخشوة وصلافة، وكأنّ له رائحة ممقوتة تشمئز منها أنوفهم خلافًا للغني محمود العاقبة، وهذا جزءٌ من رائعته التي يقول فيها:

يَمشي الفقيرُ وكلُّ شيءٍ ضدَّهُ.. 
والناسُ تُغلِقُ دونَهُ أبوابَها

‏وتراهُ مكروهًا وليس بمذنِبٍ..
‏ويَرى العداوةَ لا يَرى أسبابَها

‏حتى الكلابَ إذا رأتْ ذا ثروةٍ..
‏خضعَتْ لديهِ وحرّكتْ أذنابَها

‏وإذا رأتْ يومًا فقيرًا عابرًا
‏نَبحتْ عليه وكشّرتْ أنيابَها

أين يا ترى نرى الغنى؟، وكيف نستورد اكسيره؟، سأل أحد المدراء الأمريكان الحضور ذات مرّة: ما هي أغنى أرض في العالم؟، كانت الإجابات متعددة، فالبعض أشار لدول الخليج لتملكها آبار النفط، وأشار آخر إلى مناجم الألماس في إفريقيا، إلا أنّ المدير صعقهم بإجابةٍ غير متوقعة وقال: "الجواب يكمن في المقبرة!، نعم المقبرة هي أغنى أرض في العالم؛ لأن ملايين البشر رحلوا إليها وهم يحملون الكثير من الأفكار القيّمة التي لم تخرج للنور ولم يستفد منها أحد"، هنا ولدت الفكرة لـ (تود هنري) أن يؤلف كتابه البارز "مُتْ فارغًا"، الذي يستخلص منه أهمية إفراغ ما في الجعب من إبداع قبل ساعة الرحيل، فكم من فكرة وقادة مجنحة اندثرت باندثار صاحبها؟، فهل لدينا فكرة تقتل الفقر وتطعنه في خاصرته قبل حلول المنية؟

هناك من تجاوز الفقر إلى الثراء دون كسب ثروة مكتسبة من وريث، فكيف لأولئك العصاميين أن يبلغوا صهوة الغنى في حين فشل آخرون؟!، نعود إلى مختبر الكيمياء ونتساءل: هل بالامكان تحويل الرصاص إلى ذهب؟، عبر النشاط الاشعاعي أو عبر أيّ وسيلة مستحدثة؟، ماذا لو استطعنا تغيير تكوين النواة؟، وتمكنا من تغيير هوية العنصر؟، ألا يدفعنا الفضول المعرفي والخيال العلمي أن نشطح لفضاءات تقضي على الفقر؟، بإحالة الرصاص ذهبًا، إنّ العدد الذري لعنصر الرصاص 82، أيّ أنّ نواته تمتلك 82 بروتونًا، أما الفلز اللامع الذهب فيمتلك 79. ألا يدفعنا هذا التقارب العددي للتفكير في زحزحة هذه الأرقام قليلًا لتغيير معادلة الفقر؟، لقد تمكنت مصر من شق قناة السويس وتدفقت مياه البحر الأبيض المتوسط في بحيرة التمساح في 18 نوفمبر 1862، وتحولت الأحلام والمعاجز لحقيقة، فهل تتحقق معجزة الذهب؟، يقول أهل العلم أنّ هناك خيارات أفضل من الرصاص، فالزئبق أعلى من الذهب بمقدار بروتون، والبلاتينيوم أقل من الذهب بمقدار بروتون، فهل هناك أمل؟، من يدري ما يخبأهُ لنا الدهر؟، أننا نريد أن نسلط الضوء إلى تلك القوة والطاقة المخزونة في العلم، قد لا تتمكن الأجيال القادمة لتملك ناصية الثراء بهذا الطريق، إلا أنّ هناك حتمًا ثراء قادم في مشاريع ذات بال، ستحقق عيشًا رغيدًا لبني البشر.

 

الأربعاء، 21 فبراير 2024

الكاتب بين الجمهور والعزلة


هل يحتاج الكاتب للجمهور؟، أم يحتاج للعزلة؟، في تقديري أنّ كلّ إنسان يحتاج لشقيقه الإنسان بالغ ما بلغ، حتى وإن كان يسير على طريق الجادة؛ يحتاج لمن يقول له: "استمر فأنت على الطريق الصحيح"، ولا يعني أنّ على الكاتب السير وفق ما يطلبه القرّاء والجمهور دائمًا، بل عليه أن ينزوي وينعزل لينتج للناس ما يخدمهم ويفيدهم، وقطعًا ليس هذا الإنسحاب غرورًا ولا تكبرًا، كما قد يتوهم البعض، وفي هذا الصدد أتذكر الكاتب المصري البارز (توفيق الحكيم)، وأتذكر كتابه الظريف اللطيف والقيم الذي اسماه "من البرج العاجي"، في هذا الكتاب يصف فيه الحكيم مكتبه وخندق كتابته، أما كلمة "البرج العاجي"فهي وصف تلقاه الحكيم من البعض تهكمًا ونعتًا له بالترفع، هذا العنوان يحمل بين طياته طرافة أسلوبية، حيث ينصاع الحكيم ويتقبل الوصف الذي يرجمه به الغريم، ها هو ذا الحكيم يكتب من ذلك البرج الشاهق ليمطر على الصفحات وابل حكمه وخلاصة تجاربه، الحكيم في هذا البرج المصفح من العاج ينزوي في عزلة منفردة ليدون هذا الكتاب الذي يعد واحد من أجلى روائعه الكتابية، تروق هذه الصفحات التي سطرها للكتّاب لكونه يحاكي دواخلهم ومعاناتهم، الكتاب مجموعة مقالات وخواطر فكرية، علقت على هذا الكتاب في مراجعة قصيرة بعد الإنتهاء منه وقلت فيما قلت فيها: "البرج العاجي هي الخلوة الاختيارية التي يختارها الكاتب ليصنع كتابه للقراء، ليس الأمر ترفعًا، إنما هي مرحلة لابد منها للعطاء، فكيف نأكل العسل دون أن تمارس النحلة دورها؟"، وأقول في مراجعة الكتاب: "الخلية للنحلة، والبرج العاجي خلية العطاء للأديب"، وأقول: "ولولا ذلك البرج العاجي لما خرج هذا الكتاب".


كل كاتب يحتاج للخلوة مع نفسه من أجل الإنتاج والإنارة، لهذا يحاصره الوقت ولا يستطيع تلبية رغبة الجمهور في الرد على كل التساؤلات والتحايا التي لا تنتهي، الكاتب المعطاء لا ينسحب عن الأضواء إلا ليقدم المزيد للآخرين، كالسهم الذي ينكفئ للوراء لينطلق، وكالليث الذي يلاصق التراب ليقفز ويفترس، فلماذا لا نفسح للمؤلف أن يمارس عزلته الإنتاجية؟، للأسف هناك من المبدعين من أوقاتهم ضائعة لكسب لقمة العيش، وهنا أقول كلمتي الصادقة للحكومات: "افسحوا للمبدع أن يرفع من مكانة بلاده بتفريغه للإبداع"، نرفع القبعة لكافور وسيف الدولة لما بذلاه من رفع مستوى الشعر العربي بمآزرتهما للمتنبي، فكم من متنبي بيننا ضائع يبحث عن لقمة العيش؟، وكافور هذا الزمان لا يعلم عن حال شعرائه والعمالقة المسحوقين في هذا العصر.


البلد الذي يقدر المبدع سيعود الإبداع والخير عليه وإليه،  وكذلك الجمهور الذي ارتفع منسوب وعيه اليوم، عليه بمطالبة الحكومات والدول وأصحاب الشأن بتفريغ الموهوبين وأصحاب العطاء، للأسف أعرف أن الكثير من المبدعين يغرقون في أعمالهم المعيشية، فلا نرى لهم نتاجًا إلا النزر، لهذا يحتاج الكاتب لجمهوره لا ليقرأ ما ينتج فحسب، بل ليساهم في  اكمال مسيرة الإنتاج بالدعم والتشجيع وأن يصدع بالكلمة الصادقة التي هي أثمن من كل مال. 


الأحد، 18 فبراير 2024

ابتسم هناك أمل

 


مع تراكم الأيام الصّعبة لايزال القراء ينهلون من صفحات الكتب، المؤلفون يغرفون المداد من محابرهم ويبدعون، المثاقفة لا تتوقف رغم اللّيل الحالك.


أيها العالم أوقدوا شموع الأمل، فرغم المعاناة هناك إرادة، هناك عزم، لمن جرفته الآلام تأمل للشّمس كيف أشرقت بعد غياب؟، تأمل للضّياء زارنا بعد حلكة اللّيل، الدّنيا تشرق بالتّفاؤل، وتقول: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)، فلماذا نبتئس وحياتنا كلّها غارقة بالسّعادة رغم المحن؟!


كن مبادرًا وغرس فسائل الرّاحة في قلوب الآخرين، لا تفكر فيما مضى، ولا تتشاءم بما سيأتي، وتأمل راحة البال التّي أنت فيها الآن، يقول صفي الدين الحلي: 


كن عن همومك معرضا ... 

وكل الأمور إلى القضا


وابشر بخير عاجل ... 

تنسى به ما قد مضى


فلرب أمر مسخطٍ ... 

لك فى عواقبه رضا


ولربما اتسع المضيق ... 

ولربما ضاق الفضا


الله يفعل ما يشاء ...

فلا تكن معترضا


الله عودك الجميل ... 

فقس على ما قد مضى


بالفعل، فكم من معضلة انجلت؟، وكم من مشكلة حلّت؟، هناك غيث من رحمات سيسقينا، فليس بعد الصّبر إلا الفرج، هكذا أخبرتنا الأيام، فالبشارة هي أنّك ستكون سعيدًا عما قريب، فلماذا لا تبتسم؟، ابتسم فأنت لا تزال على طريق الرّحمات، والسّماء تعدك بالمزيد.



الخميس، 15 فبراير 2024

احيلوا القحط ربيعًا

 





ينكمش الإنسان أحيانًا وتصيبه حالة القحط، تتعب النفس، يكل الجسد، تتهاوى الروح، ويعيش حالة الاحباط، الاحباط من كل شيء، ونحو أي شيء، 

فمتى يشرق الأمل وتنبت سنابل القمح؟، النفس تمر بفصول، كفصول السنة، فمتى يأتي الربيع وتزدهر الأحلام والأمنيات؟


الحنطة التي تسيد بها يوسف (عليه السلام)، لم يكن لها ذلك الثمن لولا (القحط)، فالقحط الذي نغرق فيه ونتشائم منه، قد يكون عتبة للصعود والتحليق، حين نتحرك بذكاء يوسف، فلماذا لا نجيّر العقبات لصالحنا ونتخذها موانئ ومنطلقات؟!


موسم القحط سيأتي وعليه نحتاج لمخازن نختزن فيها حبيبات القمح التي ستكون حنطة كالذهب، المطلوب هو أن ندخر ما لدينا لموسم الكساد، حينها سيكون القحط لنا عيدًا ومن خيرة المواسم، الفكرة ببساطة هي أن نتعلم من النملة الصغيرة تخزين القوت، والهناء به في موسم الشتاء، حينها لن نعيش القحط إلا كما عاشه يوسف الذي تسيد وظفر بما يريد بعد أن حرك أحجار عقله وانتصر.

الجمعة، 9 فبراير 2024

الأمراض النفسية لها حل




يعاني البشر الكثير من الأمراض، وهي على أنواع، قد يتعافى الفرد من بعضها، حين يطرق باب الطبيب، إلا أنّ البعض الآخر منها يتربع على القلوب ولا يتزحزح، فتستمر المعاناة، وتستدام المعضِّلة، نخص بالذكر -في هذه العجالة- الأمراض والعقد النفسيّة، نعتقد أنّ هذا الصنف من الأمراض هو الأكثر فتكًا، إذا ما قورن بالأمراض العضوية الملموسة والمدركة، ومع الأسف الشديد، أغلب مجتمعاتنا الشرقية تعاني من هذا اللون، ومع ذلك لا تطلب له علاجًا، وكأنّ الأمر ليس مرضًا يُستَطب، بل قد يتحرج المُعْتَلّ من مجرد عَرْض المشكلة!!، فهل فكر المَعْلُول النفسي من اللجوء لطبيب مختص يعالج ويلاته؟، أم أنّ الإحجام عن طرق هذه العيادات أصبح ديدنًا وشامة مستدامة، رغم أنّ العيادات النفسيّة مُشَرَّعة للجميع، وبعضها مفتوحة على مدار الساعة، وبالإمكان طلب الاستشارات (عن بعد) ونحن متكئين على الأرائك والوسائد، وفي غرف المخدع، السؤال المُلِحّ: لماذا لا نطرق باب المعالجة النفسية؟، رغم حاجتنا الماسة لها، هذه العيادات ليست للشؤون العقلية فقط، فهل فكرنا يومًا في المكاشفة للطبيب المختص؛ قبل أن تتفاقم المشاكل وتتعاظم، في الآونة الأخيرة قضيتُ وقتًا ثمينًا ورائعًا في ضيافة كتاب: (عقدك النفسية سجنك الأبدي)، وهو كتاب جميل بديع للكاتب: يوسف الحسني، وبعد الفراغ منه دوّنتُ مراجعتي، وهذا نصها: "نهتم بغذاء الجسد، وكذلك قد نهتم بغذاء العقل، ولكن ماذا عن النفس؟، يصاب الكثير منا بمطبات واحباطات نفسية وعقد متعددة، دون أن نسعى لطلب العلاج، زيارة الطبيب النفسي ليست للمجانين فقط، فكيف السبيل للتعافي النفسي؟"، كثير منا لا يعي أهمية زيارة هذا الاخصائي، وكثير منا في حاجة ماسة لتلك الزيارة، لكن لسان الحال يقول: "لَا مِسَاسَ"، فتراه يولي هاربًا ولا يعقب، مع أنّ العقد تنخر حتى النخاع، عقد نفسية في العلاقات، في العمل، في المال، في السلطة، في الحبّ، وتطول قائمة تلك العقد، أظن أنّ مجتمعاتنا العربية تحتاج للكثير من التوعية النفسية، ليس عيبًا أن نزور المختصين لطلب العلاج أو المشورة، بالفعل نحتاج لزيادة منسوب الوعي؛ لتخليص هذا العالم مما يعانونه من عقد وأزمات نفسية متعددة، الاستقرار النفسي نعمة كبيرة لا يدركها إلا من فقد تاجها، وما أكثر الصامتين، وهم يغرقون في رحم المعاناة، هناك الكثير من الناس يعانون، ولا يزالون في جحيم: (الوسواس القهري، الرهاب، الاكتئاب، الإدمان، شره الطعام، فقد الشهية، وغيرها كثير)، هل ندرك جيدًا أنّ هناك جنايات وقعت في حقنا أيام الطفولة؟، مضلعات خطرة تعرضنا لها في الصغر، سببت لنا المعاناة، واستمرت معنا لأعمار متقدمة، وربما كان العلاج لحظة قرار في قطع موعد لزيارة طبيب، كتاب "عقدك النفسية سجنك الأبدي"، فتح لنا الطريق لمعرفة كثير من تلك الأزمات التي ترتبط بالعلاقات، نحتاج فعلًا لوعي، وقد تكون القداحة قراءة كتاب، أو تأمل سطور قصيرة، ستفتح لنا شهيّة طلب الاستشفاء للتعافي، وليس عيبًا طلب المُعَافاة.