ليس عبثًا أن نتأمل مخلوقات الله، فهلا نظرنا إلى أضعف مخلوقاته (النملة)؟، قد نجد كثيرًا من الحلول في حشرة صغيرة، فعلامَ نستصغر الصغائر، وما النّار إلا من مستصغر الشرر؟!، أليس الجبل الأشم والهرم الأعظم، عبارة عن تراكم حصيات صغيرة؟، فلنتدبر ونتأمل مواقف النملة، كيف تسير في طيلة مسيرتها؟، وتعمل في فصول سنتها؟، يقول الإمام علي بن أبي طالب واصفًا إياها: "ﺃﻻ ﻳﻨﻈﺮﻭﻥ ﺇﻟﻰ ﺻﻐﻴﺮ ﻣﺎ ﺧﻠﻖ؟، ﻛﻴﻒ ﺃﺣﻜﻢ ﺧﻠﻘﻪ؟، ﻭﺃﺗﻘﻦ ﺗﺮﻛﻴﺒﻪ، ﻭﻓﻠﻖ ﻟﻪ ﺍﻟﺴﻤﻊ ﻭﺍﻟﺒﺼﺮ، ﻭﺳﻮَّﻯ ﻟﻪ ﺍﻟﻌﻈﻢ ﻭﺍﻟﺒﺸﺮ"، ثم يردفُ أبو الحسن في حديثه مفصلًا: "ﻛﻴﻒ ﺩُﺑّﺖ ﻋﻠﻰ ﺃﺭﺿﻬﺎ، ﻭﺻُﺒّﺖ ﻋﻠﻰ ﺭﺯﻗﻬﺎ، ﺗﻨﻘﻞ ﺍﻟﺤﺒّﺔ ﺇﻟﻰ ﺟِﺤﺮﻫﺎ، ﻭﺗُﻌﺪُّﻫﺎ ﻓﻲ ﻣُﺴﺘﻘﺮِّﻫﺎ، ﺗﺠﻤﻊ ﻓﻲ ﺣَﺮِّﻫﺎ ﻟﺒﺮﺩﻫﺎ"، قال لي صديق بعد نزول الراتب بيوم: "هل تعرف أنّه لم يتبقَ لي من الراتب إلا بضع ريالات؟!"، فاجأني حديثه، وقلتُ في خاطري: "يا للهول!!، هل يطير الراتب كما تطير النسور؟، أم أنّ الراتب لا يكفي الحاجة كما يقال؟، أم أنّ الأمر يكشف عن ضياع بوصلة التدبير، إذ لم نتعلم من النملة أسلوب حياة، ولم نفقه أبجديات الإدخار؟!"، لقد تعلمنا منذ الصغر حكاية الصرصار والنملة، التي تدفع قوت صيفها ليوم شتائها، علينا أن نتعلم فنون إدارة الأزمات بالاستباق، حيث التحصيل من الرخاء إلى الشدة، ومن الشباب والكد إلى زمن الشيخوة والتقاعد، قال عز من قال: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، ما أجمل حديث النملة، وما أبهى فطنتها، ودقة لفظها، حيث لم تكتف بحماية نفسها فقط، بل هرعت تقرع طُبُول النذير وتعزف بوق النفير، لتحذر جميع قومها، من خطر محذق بهم، هو زحف الجيش الجرار، لم تكتف بذياع المشكلة، بل هَبّت همتها بوضع الحل الاضطراري، وألفتت لمخرج الطوارئ: "يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ"، إننا نتعلم من النملة إنذار الآخرين، والتحوط بالانسحابات التكتيكية، فليس السائق البارع من يحمي نفسه من أخطائه فحسب، بل يتحاشى بذكائه جميع دوائر الخطر التي تثب في الطريق، وإنّ لم تكن تلك المجاوزات مقصودة، وهذا ما أشارت إليه النملة بقولها: "وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"، بمعنى أن نحمي أنفسنا من أخطاء الساقطين في مصيدة النقطة العمياء!
هل نعلم أنّ فك النملة أقوى من فك التمساح بالمقارنة بحجمها؟، لننظر لأحجامنا؛ ولنتفوق على التماسيح بقوة التفكير، كما هي طبيعة النملة، تتحرك بفطرتها فتتخير الأماكن المناسبة لمعيشتها، فبعضها ينتخب شجر الخرنوب، لكونه يفرز محلولًا سكريًّا ينفع صغاره، فهل تخيرنا المواقع بما يعود علينا وعلى أطفالنا بالمنفعة؟!
المتعمق في قراءة عالم النمل يدرك أنّ هذه النملة تفرز موادًا كيميائية مطهرة، لتعقيم الأعشاش وتطهير البيوض واليرقات والشرانق، بل وتطهر غذائها المختزن لفترات طويلة، أفلا نتعلم منها ضرورة استخدام المعقمات؟، ومزاولة استخدام قواعد السلامة، لنا ولأبنائنا ولمساكننا وطعامنا؟، من المعروف أنّ النمل يتسلح بحمض النمليك وهو عبارة عن مادة مخدرة تستخدمه كخطة دفاعيّة لصد الهجوم المباغت، فماذا نصنع أمام المخاطر والخصوم التي تحيك بنا الدوائر؟!، هل أعددنا الأحماض الدفاعيّة لصد تلك الهجمات الفتاكة المشرئبة؟!
إنّ للنمل ذكاءات متعددة، فهي مصممة موهوبة، ويكفينا مثلًا أنّ نضرب بتصميم أعشاشها نموذجًا، حيث ترفع مدخل العش فوق مستوى سطح الأرض لتتحاشى المياه والأمطار، بل وتمارس الصيانة المستدامة لتقاوم الأعشاب الضارة وتكافح بقايا الطعام، وتواضب على ترتيب منزلها، فهلا اتخذنا من هذه العبقريّة مثلًا للاحتذاء؟!
من مميزات النمل أنّ لها مجسات وقرونًا استشعاريّة، مخصصة للتحسس والتذوق والاتصال لبث المعلومات واستقبالها، فلما لا نتحسس بما يجري من حولنا لنتخذ التدابير الوقائية قبل وقوع الكارثة؟!، لقد زود الله أرجل النمل بشعيرات صغيرة، لتساعدها على التسلق والمشي وتنظيف الجسد، فهل تفكرنا في أهميّة النظافة الشخصيّة ومزاولة الرياضّة التي أضحت من أثقل الممارسات؟!
النملة حشرة نشطة دؤوبة العمل، فلا تصحو إلا وترى النملة تعمل، ولا تبيت إلا وتراها تعمل، وكأنّ أجفانها استطابت آهات السهر، أفلا نستحي حين لا نتجافى عن الكسل والكرى؟، إنّ النملة تحافظ على نظافة البيئة، وتلقح الزهور، وتقلّب التربة ليتخللها الهواء، إنها عنصر هام لتحقيق التوازن في عالم الحشرات.
رغم أنّ الحكمة كبيرة في استفادتنا من هذه النملة، إلا أنّ من طبعنا استصغار الهوام الضعيفة، وتحاشي توافه الحشرات، لذا فمن الطبيعي أن تضيع منا قصة النملة بين تزاحمات الآيات، عليه كان من المهم حقًا إبراز هذه القصة بتسمية تلك السورة بسورة النمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق