الخميس، 26 يونيو 2025

هل هجرنا الهجرة؟

 



في كثير من الأحيان تغيب عن الشعوب بوصلة الوعي فلا تلتقطجواهر الهوية التي تنتمي لها، فتمر علينا الأيام والمناسبات وكأنهاأعلام باهتة لا معنى لها ولا قيمة. إننا لا نحتفظ بتواريخ الأيام الهامة،ولا نحتفي بالمناسبات، أيام التقاويم أمست متماثلة ولا ترمز لحكاياتيجدر أن نرويها للأجيال، وربما احتفلنا بأعياد الآخرين وتملصنا منأيامنا الخالدة، أليس في هذا ضياع لهويتنا وتراثنا ومجدنا؟


لماذا لا نعبر عن الوجهة التي ننتمي لها؟ والمحطات التي نرتضيهاوتغذّي انتماءنا وتضيء دروبنا وتعلي من شأن أمتنا في كل عام،والسؤال الآن: ماذا يعني لنا أفول شمس ذي الحجة وبزوغ فجرالمحرّم. هل يعني لنا هذا اليوم شيئًا؟ أم أنّ هذا السؤال فاتر خافت؟هل هجرنا الهجرة؟


هل تناسينا دلالاتها العميقة، ومغزاها التحويلي، حتى أضحت ذكرىعابرة في تقويمٍ لا يلامس الذاكرة والوجدان؟ أأصبح أول العامالهجري مجرد يوم كبقية الأيام بلا دلالة ولا معنى؟ رأس السنة الهجرييتكرر كل عام وهو توقيت تأسيسي مهم لهويتنا ووعينا، فلماذا هجرناهمن قلوبنا قبل أن يهجر من عاداتنا؟


الهجرة مشروع


الهجرة النبوية ليست حادثة ذكرى بل هي مشروع، ينبغي علينااستحضاره واستعادته، وحتى ندرك ذلك فلنتأمل هذه القصة. يُحكىأن أمةً كانت تئن تحت وطأة الظلم، تم محاصرتها وتضييق الخناقعليها فلم تعد ترى في الأفق إلا سوادًا قاتمًا. غير أنّ قائدها، لم يرَفي هذه المحنة إلا علامات البداية. حيث كان الحل يكمن في الهجرة،لم يكن هذا الحل هروبًا من اضطهاد، بل كانت تحوّلًا عميقًا وجذريًّا،من مرحلة الضعف إلى مشروع القوة.


النبي محمد ﷺ لم يخرج من أرض مكة، بل خرج من زمن الضعفإلى زمن القوة والتمكين. إنه حمل الإيمان في القلب، والخطة فيالعقل، واليقين في الروح. لم تكن هجرته ضربًا من العشوائية، بل كانتهجرة محكمة مدروسة من قائد محنك يرى الغد قبل أن يحلّ فيضيافته. لقد قرأ المستقبل بعين البصيرة، وتوّج المعرفة بالفعل، ساربحكمة فائقة، ورسم خارطة بناء أمته بعناية، أفلا يستحق هذا الحدثأن يُحتفَى به؟ أن يكون له وقع خاص في حياتنا؟ في كل يوم منمسيرته كان لنا درس، فلماذا نغيب هجرته والحكمة المستقاة منها؟والسؤال الآن لك يا صاحبي: ماذا تستفيد من أحداث الهجرة؟ هلترى الهجرة حدث يستحق الذكر؟ أم مجرد مناسبة عابرة لا قيمة لها؟


هجران الهجرة


أليست الهجرة النبوية أساس من أساسات هذه الأمة؟ وجذر رئيس منجذورها؟ فلماذا ننسى أحد أهم الدعائم لهذا البنيان الشامخ؟ إننا لانتحدث عن غياب الاحتفاء، بل نتحدث عن عمق وجداننا المرتبك. عنهويتنا الضائعة المرتعشة، عن هذه الهوية التي تتنازعها التقاليدالموروثة والمؤثرات الغربية الجارفة. يا صاحبي ماذا تفسر احتفاليةبعض الشعوب العربية والإسلامية برأس السنة الميلادية وغياب حدثالهجرة النبوية؟


أليس في هذا تيه عن ماضٍ مشرفٍ ومجدٍ تليد؟ لماذا لا تعتز الأمةالإسلامية بأمجادها، والله يقول: “وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍلِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ”. إننا لا ندع مناسبة مستوردة إلا واحتفلنا بهاوسلطنا الإضاءة على أحداثها، إننا نلهث خلف أضواء الآخرين، بينماكنوزنا التاريخية الثمينة تُهمل، وتغيب عن وعينا. إن الهجرة صنعتدولة ورجالا، وفوق كل ذلك قيمًا ومبادئ خالدة، إنّ الهجرة مشروعحضاري كبير، أفلا يستحق أن يُحتفَى به وتسلط الإنارة عليه؟!

 

لماذا لا نوّزع التقويم الهجري ونتهاداه بذات القوة التي نصنعها معالتقويم الميلادي؟ للأسف الشديد، لم يعد هذا التقويم حيًا في وجداننا. لقد أصبح رقمًا على بطاقة هوية أو تاريخًا في وثيقةٍ حكومية، فلماذا لايتناغمُ إيقاع شعورنا معه؟ ولماذا لا يُنَظِّمُ تاريخهُ مسارات حياتنا؟ ياويح قلبي على هذا التقويم، لقد هجرنا الهجرة، فماذا بقي؟


إن هذا التقويم يعيش في غرفة الإنعاش… ألم يكن لهذا التقويمبصمة في حياتنا؟ فما عدا مما بدا، لقد انحسر هذا التقويم ويكاد أنيندرس، فلماذا لا نراجع واقع الحال قبل أن تطفئ شمعته!!


إن هذا التقويم بدا مهملًا، فلا يتذكره إلا موظف الأرشيف وكاتب العقدالشرعي، وما لف لفهم، فهل سنفقده تمامًا في الأعوام القادمة؟! هلغدونا أمةً بلا مشروع؟ بلا نبض؟ بلا تاريخ؟ بلا ذكرى أمجاد خالدة؟هل نحن بالفعل أمةٌ باعت حضارتها وهويتها لحساب الآخر؟ أم لايزال فينا رمق يكافح من أجل البقاء؟


لماذا هجرنا الهجرة؟


التقويم الهجري ليس أرقامًا تُطبع، بل تاج يُتوّج، وخارطة تُتبع،وبوصلة تُرشد. فيه تخليدٌ لأعظم حدثٍ عرفته الأمة، حين هجر النبيﷺ وطنه لا طلبًا لنجاة، بل لإعلاء كلمة التوحيد. فلماذا لا نتوحد معه؟علينا أن نُثَمِّن الرموز ونفخر بالهوية؛ أليس في العلم الأخضر شهادةلا تُداس، وقمة لا تُقاس؟ كذلك الهجرة… ليست حدثًا نستذكره، بلوريد لا ننفصل عنه، ونبض لا نعيش بدونه.


فلماذا هجرنا الهجرة؟ هل هو خوف من البدعة؟ أم أنّ كل دعوة فيهاتأمل ووعي هي محل ريبة؟ أم هو غزو ثقافي تشربناه، فلا نعرفأهمية الأحداث إلا إذا أشار الغرب لأهميتها؟ فكيف نهمل حدثًا بهذهالأهمية القصوى، التي أدركها الأقدمون ونساها اللاحقون؟ هل نحتاجلمفكر أو كاتب ليوقد لنا الشعلة؛ حتى ندرك ما وصلنا إليه من جفافٍوجفاء؟ هل أدركنا المعنى؟ هل امتلكنا الوعي؟ إننا لا نتغنى بالتاريخ،بقدر ما نستنهض به، فالقضية ليست غنوة بل مشعل أصالة ونهضةوإفاقة.


العودة إلى الهجرة


قد يفهم أحدهم أننا ندعو لإحياء المفرقعات وإبهاج السماء بالألعابالنارية، وهي طبيعة الكائنات القشرية، إننا لا نحتاج لإيقاد الشموعفي الخارج، بل إيقادها في الداخل، ففرق بين من يتعلق بالزينة ومنيتعلق بالمبدأ، الهجرة ليست مناسبة، بل محطة تحول، الهجرة دعوةداخلية لكل خير، ترك الظلام والاتجاه إلى النور، ترك الكسل والنهوضبالفعل، ترك التقليد واعتناق التجديد، التخلص من التبعية والتحليبالريادة.


يا صاحبي لماذا لا نربط رأس السنة الهجرية بجلسة تأمل؟ بقراراتشخصية؟ بخطوات تغيير جماعي؟ لماذا لا نكتب عهد قرار كل عام: “هذا العام سنهجر الكسل… سنهجر القسوة… سنهجر التردد…”. لماذا لا نُطلق حملة توعوية أو رمزية: “لا تهجر هجرتك”، فلنربط هذاالتقويم بأحداثنا، بنبضنا، بسائر شؤوننا، لا من حيث الشكل فقط، بلبالمعنى والمضمون والوعي.


الأثر والخلود


هل توقع المهاجرون أن هذه الهجرة ستؤرّخ، وتكتب كل يوم على سبورةالمدرسة؟ وعلى أول صفحات الصحف؟ ما كان يتوقع بلال الحبشي أوصهيب الرومي أو سلمان الفارسي أن يغدو اسمه منارًا خالدًا وإيقونةتكرر كل يوم، هذا التاريخ حقق الخلود من ذلك الأثر، فماذا عنك ياصاحبي؟ هل ستستضيء من هذا الدرس فتكون شعلة إنارة ومشروعحياة؟ أم أن الرسالة لم تصل بعد؟


إننا لا نتحدث عن الهجرة بصفتها تاريخًا أو روزنامة تمزق أوراقها معتقادم الأيام، إننا نتحدث عن إعادة الهجرة لحياتنا، نصدر بها وعيناوثقافتنا، أن ندرك جيدًا أن هجران الهجرة يعني هجرانًا لهويتناوحضارتنا ومستقبلنا.


يا صاحبي هل التحقت بقوافل المهاجرين؟ أم ما تزال واقفًا على قارعةالطريق؟ يا صاحبي لا تزال الهجرة ممكنة، ولم تنتهِ قوافل المسافرين،يا صاحبي الهجرة ليست أثرًا على وجه الرمال، بل هي وقع علىشريان القلب، الهجرة دماء داخلية تسير في الأوردة، فمتى ستحييهجرتك في أعماق وجدانك؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق