الخميس، 20 مارس 2025

الصدقات وعجائب تُرْوى




هل ضاع منك مبلغًا من المال وشعرت بالأسى؟ هل خسرت بعض مالك ذات يوم؟ هل تذوقت مرارة النفقة على أمر لم تجني منه أي فائدة؟ الحياة تضعك على محطات الفقد بشكل أو بآخر، الحديث يرتبط بالإيمانيات والمعتقدات، وتحديدًا في أمر الصدقة، فهناك معتقد لدى الكثيرين يصرح أن الصدقات تنمي المال وتجنب الخسائر، البعض يدفع صدقة قبل أن يبدأ في مشروعه أو أي أمر يهمه، البعض لا يضع أقدامه في سفر دون أن يخرج من محفظته بعض الدراهم، يعتقد الكثير في أهمية الصدقات في دفع المكروهات وجلب المنافع والخيرات، سمعت الكثير من المواقف وقرأت الكثير من الحكايات التي ترغب في دفع الصدقة، حتى أن البعض يروي آثارًا عجائبية عند دفع مبلغ زهيد لفقير أو محتاج، البعض يقول: "إنفق بعض ما لديك وتأكد بنفسك".


البعض يقول متهكمًا: "ما ضرك لو دفعت بعض القروش الزهيدة لتجنبك خسارة متوقعة أو غير متوقعة"، والخسائر على أنواع واحدة منها الخسائر المالية، فقد تخسر في صفقة تجارية أو معاملة بنكية أو تقع فريسة مخالفة مرورية أو يتعطل لديك جهاز لم تحسب له حسابًا، والأمثلة لا حصر لها. يقول التابعي الشهير سعيد بن المسيب مخاطبًا نفسه: "ماذا فعلت؟"، حينما عثرت به دابته، أي أنه يرى أن عثرات الفرس والدواب مرتبطة بأفعال صاحبها، هكذا يعتقد وكأنه يفرغ عن معنى الآية التي تقول: (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّـهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ).


كثير منا لا يتفكر فيما تؤول إليه الأمور، فهل تعرفنا على جواهر المسببات ومباعث تكونها؟ ألا يعقل أننا السبب الأساس في تراكم كثبان المصائب التي نتعرض لها كل يوم؟، ماذا إذا كان غياب البشاشة والعبوس في وجوه من حولك له ثمن ويترتب عليه بعض الكوارث؟


هناك رأي يعتقد به البعض أن سوء تعاملنا مع الغير له فواتير باهظة من صحتنا وثروتنا وتطول قائمة مستردات الديون، سؤال عفوي نطرحه عليك: هل الذنوب والمعاصي تبدد النعم؟ وتحجب البركة؟ وتحرمنا من توافر الرزق؟


تحدثنا سورة القلم عن حكاية أصحاب الجنة الذين اتفقوا على البخل بما في أيديهم فأصبحت جنتهم كـ (الصريم)، والصريم هو الليل البهيم المظلم. في حكاية واقعية يدخل أحدهم فجأة غرفة والدته فيسمع هذا السؤال: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّـهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً)، في البداية ظن أن هذه الآية صدحت مصادفة، لكن التسجيل كرر عليه ذات الآية، وكأنها تخاطبه، فقال على الفور: "أنا يا رب"، لكنه نسي دفع الصدقة، فلما رجع لأمه سمع آية أخرى تخاطبه: (وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً)، فاقشعر بدنه ووقف شعر جسده وقال: "حالًا وفورًا"، ومن هنا بدأت رحلته مع دفع الصدقات. نهاية الحكاية أن راتبه تضاعف ثم تطوّر عمله ليربح خمسة أضعاف ما كان يجنيه.


حكايات البر كثيرة ولعل كلّ واحد لديه حكاية يرويها، سمعت قصة تقول أن أحدهم رجع إلى وطنه ليكتب وصيته بعد أن عرف أنه مصاب بمرض خطير، ومن خلال نافذة منزله شاهد امرأة تجمع العظم الملقى في الطريق من أمام محل بائع اللحم، فاندفع يسألها عن هذا الصنيع المستغرب، فأجابته أنها امرأة أرملة وفي رعايتها ستة بنات، ومنذ عام أو يزيد لم يتذوقوا طعم اللحم، وكانت تصبر عيالها بالعظم والشحم، فسخى عليها بدفع قيمة اللحم لمدة عام، فتبخر عنه المرض الذي كان يؤرقه! 


السؤال الذي نطرحه: هل للصدقات أثر في مداواة المرضى؟ أم هي محض تخرصات؟ لننقل قصة أخرى لمرأة أخرى فقيرة متسولة ترمق بعيونها السماء وتنتظر من الله الرحمة، نهضت هذه المرأة واختارت رجلًا محددًا ومدّت إليه يدها مستجدية، هذا الرجل لم يكن في محفظته إلا ورقة نقدية واحدة من العيار الثقيل والذي لا يجرأ على دفع نصفها لسائل الطريق، فكيف يدفعها بأكملها؟ 


فلما أدار لها ظهره منصرفًا حثه شيء ما  بداخله أن يلقي نظرة على المرأة قبل المغادرة، فوجدها ترمق السماء بضراعة، هنا رقّ لها قلبه وقرر أن يدفع الورقة النقدية بأكملها، وبالفعل دفعها دون أن تطرف له عين أو يرف له جفن، وهي بدورها لم تنظر لما وهبها الرحمن، فقط تمتمت بالخير له، ورجع إلى منزله، في اليوم الذي يليه حَدَث ما لم يتوقعه، تبدلت أموره الاقتصادية رأسًا على عقب، الأسهم ارتفعت والصفقات نجحت وأدرك من فوره أنه تحت عناية الله فخر له ساجدًا شاكرًا، فلم يبصر في سجوده غير تمتمات تلك المرأة التي تصدقت عليه ببعض دعواتها، وفارق كبير بين ما دفعه لها وما وهبته له.


هل جربت أن تنفق بعضَ ما لديك؟ هناك إدعاء يقول: "المنفق يكسب أضعاف ما أنفقه"، هذا الإدعاء يحتاج لتجربة وإليك يعود القرار، أحدهم أنفق من ماله على قطط صغيرة ليس لها أحد، فوهب الله له أمه التي شارفت على الرحيل، العجيب أن هذه الأم روت لابنها أنها رأت في منامها قطط صغيرة تدعوا لها، فهل هذه مجرد مصادفة؟

الأربعاء، 26 فبراير 2025

أرواحنا والأحجار الكريمة




تميزت عدّة من الأحجار عن سواها، لجمالها وجوهرها الثمين، فأطلق عليها اسم (الأحجار الكريمة)، وما حقيقتها إلا مجرد حجر، لكن المثقال اليسير منها يُحْسب له قيمة. من تلك الأحجار القيمة التي تباع وتشترى: (الماس، والعقيق، والزبرجد، والفيروز، والزمرد، والياقوت، وسوها)، هل سألت نفسك يومًا لماذا كانت هذه الأحجار لها يقيمة مادية؟ وتحفظ في صناديق مغلقة؟ ولها سوق يتنافس عليها باعة الجوهر؟، وبقية الأحجار تلقى في قارعة الطريق ولا يُعَار لها أي اعتبار؟

باختصار الأحجار الكريمة مميزة وتختلف عن بقية الصخور والحصى، حتى هذه الأحجار النفيسة يختلف سعرها عن غيرها من ذات النوع وذات الصنف، باختلاف التركيب، فالتجاويف والشوائب تقلل من قيمتها، وكلما زاد النقاء ارتفع الثمن، والعكس صحيح، حديثنا ليس عن هذه المجوهرات، بل عن شيء آخر نعرضه الآن، وهو أن هذه النفس البشرية، كالحجر النفيس، والأعمال التي يفعلها المرء تنعكس على هذه الروح التي بين جنبيك خيرًا فخير، وشرًا فشر، لهذا قد نجد بشرًا من نوع خاصّ مجرد النظر إلى وجوههم ترتاح لهم الأفئدة وتطمئن لمحياهم النفوس وكأنما هذا البشر في جوهره ما هو إلا ملاك يسير على الأرض، وعلى النقيض تمامًا قد نرى بشرًا آخرًا تنفر منه النفوس وتستوحش وتشمئز لمطالعته وكأنما لا نرى أمامنا إلا مجرد شيطان رجيم والعياذ بالله!

فما هو السر الذي يجذبنا لهذا وينفرنا من ذاك؟، لماذا ننسحر لهذه الروح وكأن مغناطيسًا يسحبنا إليها، وعلى النقيض ذلك الذي لا نراه إلا إبليس اللعين، هل هناك سر يميز أحدهما عن الآخر؟ البعض ينهمك في العبادة فلا نرى على محياه ذلك الأثر النوراني، ولربّ مُقل نرى الإنجذاب إليه والارتياح!، هل وراء ذلك من سر؟ يتفق الجميع أنّ الاعتبار بالكيف لا بالكم، فلتكن أعمالنا كيفًا، مع ذاك يصر البعض على الكميات دون النوع. روي في الأثر أنّ عابدًا عبد الله خمسمائة سنة فدخل النّار، بينما صحابي لم يصل في حياته ركعة واحدة، قال عنه النبي: “إنّه لمن أهل الجنّة”.

البعض يظن أنّ ورود الجنّة بكثرة الأعمال، بينما نشاهد نماذج كثيرة تفصح أنّ الجزاء ليس بالكم، إنما بالكيف. الخلاصّة المستوحاة أنّ الله لم يخلقنا ليجهدنا في عبادته، فما يصنع بعبادتنا وهو الغني المطلق؟، لم يخلقنا ليربح علينا، إنما خلقنا لنربح عليه، وذلك متحقق بالقليل من العبادات. فرب ركعة؛ خير من آلاف الركعات، فكيف نصحح المسار؟

لقد خلقنا الله وقد وهبنا ماله واستقرضنا إياه، ومع ذلك يضاعف لنا الواهب الموهوبات: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). هناك من الصالحين من يستهدف صلاة مائة ركعة في اليوم الواحد، فهل فكر هذا العابد تأدية صلاة الخاشعين؟!، إنّ صلاة الخشية، هي المطلوبة، وهي الكنز الذي غفلنا عنها، وهي تلك الصلاة التي بالفعل تنهى عن الفحشاء والمنكر. السؤال: ما فائدة الصلاة إذا تجردت من روحها؟، ما فائدة الصدقات إذا استهدفت التفاخر والرياء؟، إنّ الله لا ينظر إلى كثرة الأموال أو قلتها، إنما ينظر إلى القلوب التي تهب الصدقات وتغيث الملهوف، فالأعمال بالنيات.

ولنا في قصة ابني آدم قابيل وهابيل خير موعظة، حيث يتجلى لنا درس التقوى، وإنّه من الأسس الهامة لقبول الأعمال، قال تعالى على لسان هابيل: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، وفي غير محل تركّز الآيات على هذا البعد: (وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ)، (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)، وهنا نطرح السؤال: لماذا نجرد العبادات من محتواها القدسي، ونتمسك بالقشور؟

ربّ فقير يدفع درهمًا واحدًا، خير من ذلك المتبجح الذي يدفع أطنان الذهب، هل نعي خطورة الأمر وفداحته؟، ربّ مبلغ زهيد نفع، وربّ مبلغ كبير أضر وأسخط، فما هو الاعتبار؟، الجواب في الآية الآنفة: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، إذًا الإعتبار بالكيف لا بالكم. يقول تبارك اسمه: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء)، إذًا لا فائدة من الزبد الخالي من المحتوى، ما يصنع الله في اللحوم والأضاحي والدماء الكثيرة باهظة الثمن؟، المطلوب أن يتحرك هذا الوجدان للمعاني النبيلة، السؤال الجوهري: لماذا نحتبس بين جدران الطقوسية؟

إنما الهدف بلوغ التقوى التي تفتح بوابة الصفاء والإنشراح، وحالة القرب من الله. فربّ كلمة خفيفة على اللسان هي ثقيلة في كفة الميزان، إذا حملت المعاني الرفيعة وأثرت في صاحبها. لهذا لزم الصدق في القول والإخلاص في العمل وتطهير النية.

ما فائدة التبتل الطويل والقلب ساهٍ لاه؟ ربّ ركعة أدخلت صاحبها الجنّة، وربّ سجدة أسكنت مؤديها الفردوس. فلماذا لا نركّز على الكيفية؟، ونغرق في (كاف) الكم. الكم جيد، ولكن الاعتبار بالكيف. لهذا يتبخر العمل ويتحول لرماد، إذا خالط العمل (راء) الرياء. لهذا ورد: “أنا أغنى الشركاء عن الشرك”. والنصيحة المميزة الخالدة إذا اهتم الناس بكثرة العمل، فليكن همّك إجادته والخلاص فيه. فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش؟، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب؟

نعود لحديث الأحجار، وقبل أن توضع روحك في الميزان، عليك أن تتفكر أي حجر كريم تنوي أن تكون، وعلى هذا النهج تحرك وكن متميزًا في قولك وفعلك وفي  نواياك، فالحجر النفيس ينافس غيره بما يحتوي من جوهر أصيل، فشكّل روحك لتكن ذلك المَلاك الذي ينجذب إليه الجميع ولا تهتم بالقيل والقال، فالجوهر يُعلى ولا يعلى عليه.

الثلاثاء، 18 فبراير 2025

صياد بطريقة عجوز "أرنست همنغواي"




ليس كل إنسان يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، البعض يعيش حياة الشقاء وشقاوة الحياة، منذ بواكير أيامه ونعومة أظفاره، الحياة تحتاج لصبر وإصرار لبلوغ المرام.. وإليك السؤال: هل قرأت الرواية النوبلية "العجوز والبحر"، للأديب العالمي أرنست همنغواي؟

إذا كنت قرأتها ستدرك المعنى فورًا، وإليك التفاصيل لتكون في الصورة.. هذه الرواية ذائعة الصيت تسحبك إلى الغوص في عمق البحر، تنقلك إلى ذلك المركَب المعدّ للصيد. ستقذفك السطور إلى ذلك القارب الشراعي البسيط الذي تراقصه الأمواج.

والآن، أغمض عينيك، وحلّق بخيالك لتعايش لحظات خاصّة في عروق أعصاب ذلك الصياد العجوز، الذي راهن عليه المؤلف لحصد جائزته الخالدة، هذا العجوز – بطل الرواية – لديه إصرار من فولاذ لاصطياد سمكة بحرية خرافية تحوم في أسفل الماء!

أغمض عينيك أكثر؛ لتعيشَ تلك اللحظات الطويلة، وأنت تكافح مع الموج والرياح، وتقاوم دوار البحر. إذا عشت أجواء الرواية بالشكل الجيد، فستجد نفسك أنت ذلك الصياد العجوز، وأمامك مسؤولية شرف، وهي اقتلاع السمكة الضخمة من محيطها، وستقول في أعماقك عبارة التحدي الشهيرة: "أكون أو لا أكون".
أحسب أن أرنست همنغواي حول جائزة نوبل التي ينوي الظفر بها، إلى سمكة ضخمة يصعب انتزاعها، هنا تحوّلت روح أرنست همنغواي إلى روح ذلك الصياد العجوز المكافح، الذي يخطط لاقتلاع السمكة من عالمها.
إنّ قوة الأسلوب السردي في هذه الرواية جعلت من همنغواي أستاذًا رائدًا على عرش الرواية الحديثة، ومن يقرأ الرواية بتمعن سيلحظ عنصر "الرمزية" في التخوم، فـ "سانتياغو" -الصياد العجوز- يقاتل أسماك القرش الشرسة، وينافح للسيطرة على سمكته العملاقة؛ ليعيد لمكانته المهنية الشرف.

نستطيع أن نقول إن همنغواي حوّل منافسيه الأقوياء إلى أسماك قرش مفترسة، تستهدف الهدف الشرفي الذي أقسم همنغواي أن يحافظ عليه كوسام شرف، بؤرة دقيقة يمعن همنغواي فيها عدسته، ويضع الهشاشة البشرية أمام محك صراع الإنسان والطبيعة القاسية، والنزاع الصارم المستميت.

تتعملق عقدة الرواية أكثر في تلك اللحظة الدراماتيكية، حين تتقافز أسماك القرش على سمكته الجبارة، فتتخذها وليمة طازجة لا تفوّت. هنا يرى سانتياغو فريسته تؤكل أمام ناظريه دون أن يتمكن من إنقاذ لحمها الطري، تتبخر السمكة العظيمة، كل ما تبقى منها هيكلها العظمي فقط: عمود فقري ورأس وذيل، لن يصدق أحد روايته التي ستعيد له شرفه الضائع، إلا بالاحتفاظ بهذا الدليل المادي – وإن كان مجرد عظم – لكونه سيخرس الأفواه المشككة.. مؤسف جدًا ألا يصدق أحد ادعاءك الحقيقي، مؤسف جدًا أن تحتاج لهذه العظام كدليل مصداقي لإثبات صحة روايتك الحقة.
وبعد رحلة أسطورية طويلة، وصل سانتياغو إلى الشاطئ متعبًا منهكًا لا تعرف عيناه طريقًا إلا إلى السرير، ألقى بالعظام العملاقة على الساحل، وهكذا صدّق الصيادون مقدرته، وأنه مثال لذلك الصياد المخضرم الذي تنحني له الرقاب، وترفع لأجله القبعات.

في هذه الحياة أنت في معركة بحرية، بالطبع ليست معركة ذات الصواري، أو لنقل ذات الصواري بصورة مختلفة، بطريقة هذا الصياد العجوز، الذي ابتكره همنغواي من رحم معاناته مع غرمائه لبلوغ أحلامه الروائية!. فهل تستطيع إثبات مقدرتك ووجودك كما فعلها همنغواي؟
الناس لا يصدقون المزاعم، وإذا أردت أن تحفر اسمك على جبين التاريخ، يلزمك سمكة عملاقة لتصطادها.. قد تختلف هذه السمكة من فرد لآخر، ولكنك تحتاج لذلك الهدف الكبير، كما تحتاج لصبر معياري تتجلى فيه مقدرتك وعزمك، تحتاج أن تتفوق على أسماك القرش، تحتاج لقوة وإرادة حديدية لاقتلاع سمكتك العظيمة. ثم يكون لزامًا عليك الاحتفاظ بها – ولو في صورتها العظمية الهيكلية – لتثبت للجميع أنك فعلتها.

حينها ستُعْرف مقدرتك، وقد تعرض سمكتك الشخصية في متحف يدوّن تحتها اسمك، لتبقى مقدرتك مسجلة تعترف بها الأجيال.

الأربعاء، 5 فبراير 2025

بين النحلة والذبابة!

 


الإنسان في رحلة الحياة نحلة أم ذبابة؟ إليك البيان بالتفصيل.


لقد خلق الله الكائنات، ومن ضمن ما خلق الحشرات، ومن أشهر الحشرات المعروفة والمألوفة النحلة والذبابة. ورغم أن لكلتا الحشرتين مزايا فريدة وتراكيب معقدة، فإن لهما معاني فارقة.. إحداهما ترفع المنعوت بها فوق السماء، والأخرى تحط بالموصوف بها في درك الحضيض!.


إياك أن تقول لأحدهم: "أنت ذبابة"؛ فهي شتيمة لاذعة في نظر الجميع، بينما سيسعد كثيرًا من تنعته بالنحلة، رغم أنهما حشرتان طائرتان متقاربتان في الحجم.. فما الفرق بينهما؟ ولماذا كان النعت بالأولى مسبة وشتيمة وبالثانية مديحًا وثناء؟


تسقط الذبابة على القاذورات عادة، وتسبب الأمراض، وهي من أخطر الحشرات نقلًا للأوبئة، ومن أبرز الأمراض التي تسببها الذبابة: (التيفوئيد، والكوليرا، والجمرة الخبيثة، والجذام، وداء الليشمانيات، والدوسنتاريا، وغيرها).. في بعض المصادر أن الذبابة تنقل 200 نوع من البكتيريا، البعض لا يحتمل مظهرها القبيح والمقزز، والبعض تأقلم مع وجودها وقد يهشّها أحيانًا برفق غير مكترث لوجودها من عدمه.


بيد أن بعض الباحثين ينبه على خطورتها، وأنها تتقيأ بصورة دائمة على طعامك، ثم إنها تستطيب الأماكن القذرة، فتهبط على العفن وكل مستقذر يأنفه الذوق السليم، البعض يتهاون مع الذباب، علمًا أن بعض العلماء يحذر منها، حيث يقول عالم الحشرات "رون هاريسون": لا يحتاج الذباب لنقل جراثيمه إلا للمسة بمقدار ثانية واحدة، لهذا يحذر من تناول الطعام الذي يبيعه الباعة المتجولون، فإذا شاهدت ذبابة تحوم فتوقع أنّ الجراثيم مهيأة للانتقال إلى معدتك. بعض الذباب لحوح لجوج، وكأنه يتعمد إيذاءك وإزعاجك، لا سيّما في فصلَي: الصيف والربيع.


أما النحلة فهي صانعة العسل، العسل الحلو طيب المذاق، بما يحمل من لذة وشفاء للناس، وقيمة غذائية متفق عليها.. النحلة طيبة لا تحط إلا على الورود والطيبات، تعمل بجد لجمع الرحيق، ولا تتوقف حتى تكتمل الخلية وتملأها بالشمع والعسل المصفى، ورغم وجود شوكتها الدفاعية فإنها تذكرنا بكل العناوين الخيرة، العمل والإخلاص، الورد والرحيق، العسل الشهي الذي يمدنا بالطاقة والحيوية والشفاء.


النحلة لها العديد من الفوائد، سواء على البيئة كدورها البارز في التلقيح النباتي، أو لما يتحصله الإنسان من منتجات غاية في الأهمية، ومما تنتجه النحلة للبشر الشمع، والعسل، والعكبر، وغذاء الملكات.


فلماذا الحديث عن هاتين الحشرتين؟. نستطيع قراءة كل حشرة قراءة مسطحة، ونحفظ المعلومات العلمية لكل صنف وكفى.. غير أن الأهم هو القراءة الأعمق، لبلوغ أغوار المعاني المستفادة من درس هاتين الحشرتين. فماذا نستفيد؟ على الواحد منا أن يتأمل حياته جيدًا، ويقيّم تصرفاته بموضوعية؛ أهو ضمن عالم الذباب اللعين، أم في كرنفال راقص برفقة الملكة المكرمة؟


أي نوع نحن في الحقيقة؟ أنقدم الفائدة لأنفسنا وللآخرين كما تصنع النحلة، أم نزاول الأذية بكل فنونها وأشكالها؟ البعض يضر نفسه باستخدام المواد الضارة كالتدخين والمخدرات وإنتاج عوادم السيارات والمصانع، وإلقاء النفايات في البحر والطرقات وغيرها، وهذا هو دور الذبابة.. فمتى سنوقف الوباء؟ بينما نجد آخرين دورهم دور النحلة، يعطرون الأجواء بزراعة الورود وتشجير الحدائق، ونشر الطاقة الإيجابية، في كل مكان.


نتعلم من درس النحلة والذبابة فن الابتعاد عن الخصال الذميمة، كالكذب والسرقة والاحتيال والتعامل الفظ الخشن، وإحلال كل محمود بالتعامل الطيب وإلقاء التحية ونشر الابتسامة.


إننا نتعلم من هذا الدرس بذل النشاط القوي في كل خير، وصرف المنفعة الجزلة لكل المحيطين، لأنفسنا وللبشر ولسائر المخلوقات والكائنات، ورفع الأذى وتحاشي الوقوع في بؤرة الشر.


لا نحتاج لتقييم الآخرين ولا داعي أن يصفنا أحدهم بالنحلة أو الذبابة؛ فالإنسان أبصر بطبيعته، والمهم هي الحقيقة التي تتشكل بها شخصيتنا، لا مجاملات الآخرين وشتائمهم.


البعض حقيقة هو نحلة بالفعل في كل فصول حياته، والبعض الآخر – مع شديد الأسف – لا يتقمص إلا قميص الذباب، فالإنسان حيث وضع نفسه، فلماذا لا نجعل هذا الكوكب يدوّي بفيالق النحل، ويترفع عن الانخراط ضمن جيوش الذباب الضار؟، ما أجمل أن يكون الواحد فينا نحلة بكل المقاييس التي تبعث على الفخار.

الثلاثاء، 21 يناير 2025

اصنع من الحصى بيتًا

 



الحكايات الخرافية قد تكون واقعًا، والأحلام المستحيلة قد تتحقق!. لمَ لا؟. فلنجرب قراءة هذا المقال، ولنتحقق: هل بالإمكان صناعة بيت من الحصى؟


وإليك هذه الحكاية.. حين عجز أحد القادة عن فتح مدينة محصنة منيعة شاهد نملة تصرّ على حمل شعيرة، فانقدح في رأسه الإصرار حتى نال مطلبه! إن شرارة ذلك الفتح الكبير نملة صغيرة مع برهة تأمل، فلماذا لا نتفكر قليلًا لنحقق المعجزات؟


أدهشتني قصة في كتاب، ولا تزال حكمتها تدوّي، وهي أن صائغًا لاحظ أن برادة الذهب تتساقط على الأرض، ثم يأتي عامل النظافة ويكنسها، ويلقي بها في القمامة، هنا صرخ هذا الصائغ في أعماقه حين لمعت في عقله فكرة طازجة، فتحرك من فوره وجلب فرشة خاصة، وأخذ يكنس البرادة نهاية كل يوم، ليصنع من نُثار البرادة ثروته.


السؤال الحقيقي الذي نود طرحه هو: أيهما أثمن وأهم؛ وقتك الضائع أم برادة الذهب؟ كثيرًا ما نشتكي من قلة الوقت، ونحن نبدد دقائق أعمارنا يمينًا ويسارًا، أحدهم أنهى قراءة عدة كتب في لحظات انتظار إشارة المرور المزعجة، فكم من الوقت أهدرنا في قاعات الانتظار؟


أعجبتني فكرة وضع كتب في صالون الحلاقة وغرف الانتظار، لكن المؤسف أن الأيدي لا تصل إلى هذه الكتب، بل إن لدى كل شخص ثروة ثمينة هي جهازه المحمول، فهل أحسنا إدارة الوقت المهدور؟ نقول: اصنع من الحصى بيتًا، ووقتك الضائع لو تم جمعه بطريقة جمع برادة الذهب، فإن دقائق الانتظار ستتحول إلى ساعات.


أعجبتني عقلية جامع الخردة، يجمع ما لا يرغب به الناس، ليصنع من الركام ثروة.. كلنا يشاهد أن الشعوب المتقدمة تقرأ على متن القطار والطائرة، يقرؤون في أثناء أسفارهم وفي أوقات انتظارهم، أما بنو جلدتي فيتثاءبون بعيون دامعة كسلى، وهم يعيدون السؤال ذاته عدة مرات: متى سنصل؟. كلنا يمتلك 24 ساعة في اليوم، فهل استخدمناها بكفاءة؟ المدهش أنّ الأخ المتثائب يشتكي قلة الوقت!


إنّ أغلب الشعوب العربية لا تحسن إدارة وقتها، ولهذا تخلفنا وتقدم الآخرون، الوقت ساعة رملية، ومع انتهاء آخر ذرة تنتهي أعمارنا، لنقرأ كتاب “التأثير المركب”، للمتحدث التحفيزيّ الكاتب الأميركي دارين هاردي، وكتاب “العادات الذرية”، لخبير التنمية الذاتية الكاتب الأميركي جيمس كلير، لندرك ما تصنعه الدقيقة في حياتنا.


المقال الذي بين يديك ليس مهمًا إذا لم يحرك فيك ساكنًا، اشرب الشاي وشاهد ما يثلج الصدر، ودع ما كان على ما كان إذا أردت.. يعجبني من لا يكمل المقال لكونه فهم القصيدة من مطلعها، ففكرة المقال قائمة على أن الأجزاء تكوّن الهدف، والخطوات توصل للغايات، فأين هدفك؟ ولماذا لا تسعى؟


كلنا قرأ قصة الثعلب القاضي مع جبنة القردين المتخاصمين، بمكره أخذ يأكل من الجبنة حتى أتى عليها.. الثعلب المكار ذاته يغري غرابًا بالغناء، ليظفر بالجبنة التي في فمه، فلماذا لا نمارس حيلة الثعلب مع أوقاتنا الضائعة؟ مائة ريال إذا نقص منها ريال واحد لا تكون مائة، إنه تأثير الجزء الضئيل، القطرة المتوالية تشرخ الصخر، الحبل الضعيف يؤثر في حافة البئر، وقطرات القراءة التي تمارسها بين الحين والآخر، تشكل ثقافة في صندوق الجمجمة.


لقد أدهشني بائع كتب يدمن القراءة حينما تحدث، لم يضيِّع وقته في انتظار الزبون، بل جعل من دكانه مكتبة للقراءة، والأمر الطارئ محاسبة الزبائن، النتيجة أنه أصبح مكتبة صوتية متكاملة إن تكلم، ولا غرابة أن يكون كذلك ما دامت عادته مرافقة العلماء من خلال بساتين علومهم وكتبهم.. المؤسف أن لدينا كتبًا شهية وملونة، وذات قيمة ممتازة، ومع ذلك لا نحرك ساكنًا، نحتاج فقط إلى عملية الانضباط والإصرار على الهدف.


تذكر قصة إصرار النملة في حمل حبة الشعير إلى بيتها، واجعلها لك منهجَ حياة.. اقرأ كل يوم صفحة واحدة، أو ضع لك خمس دقائق لمطالعة كتاب، وستندهش من العبقرية التي حققتها، الثقافة كالثروة.. كن مدخرًا درهمًا كل يوم لتجني جرة الذهب في الختام، ومن يقرأ كل يوم فسيكون مكتبة متنقلة عما قريب، وسيدهش قُرّاءه ومستمعيه!


فقط داء واحد ينبغي عليك محاربته، هو الكسل.. فقط ثمرة واحدة نحتاجها بإلحاح، هي الالتزام على الخطة.. حينها سنصنع من الحصى بيتًا.

السبت، 28 ديسمبر 2024

ادرس خطتك قبل الانطلاق

 



تمر علينا الأيام تلو يام، فنكبر عامًا تلو عام.. البعض ينظر إلى ما فرط فيه فقط، فيعاتب نفسه بطريقة ما يسمى بـ"جلد الذات"، فيقسو على نفسه ويعيش الإحباط بجميع ألوانه وفصوله!


بيد أنّ هناك مبدأ آخر ندعوك لتأمله، فقد تتبناه.. هو مبدأ الرحمة والشفقة على هذه النفس التي بين جنبيك. فنقول لك: حنانيك على نفسك حنانيك، فما أنت إلا محض بشر خلقه الله ضعيفًا، البقّة تؤلمك، والشرقة تقتلك، والعرقة تنتنك، فهل هناك ضعف أبلغ من هذا الضعف؟


لم يخلق الله بني آدم من صخر ولا من فولاذ، فالهشاشة البشرية معدنه، وهي شفافة وسريعًا ما تُكسر، فرفقًا بنفسك ومهلًا على معاجلتها باللوم والعتاب والتوبيخ.. يكفيها ما تحملت طيلة أعوام من منغصات وهموم ومصائب، فكيف تداويها من دائها؟ التريث لا يعني الإهمال والتثاقل، والمداراة لا يعنيان الترك والتكاسل، فكيف السبيل؟.


السبيل في مواصلة المسير، فلا داعي لمزيد لوم وعتب، فأمامك العديد من الأيام لتصل إلى مطار وجهتك.. افتح لك في كل عام صفحة جديدة، وضع بين راحتيك المخطط واستأنف المشوار. قل لنفسك "أحسنتِ" فيما أحسنَتْ فيه، واصفح عنها وسامحها على التقصير، وقل لها: أمامكِ وقت فلمَ لا نحاول أن نصل؟


للأسف، قد لا يجد الواحد فينا من يشجعه.. للأسف، قد لا تجد من يحتفل بك حينما تبدع وتنجز، قد لا تجد من يأخذ بيدك ويوجهك الوجهة الصحيحة، فالناس تشغلهم شواغلهم. لهذا، ضع لك شمعة، واحتفل بما أنجزت، واستكمل الطريق، فأمامك في كل سنة عام جديد، ولوحة جديدة وعلبة ألوان جميلة، فماذا سترسم في لوحتك الجديدة؟


الملاحظ أن هناك مرضًا منتشرًا يعرقل تحقيق النجاحات والأهداف، نسميه نقص هرمون الشغف.. عليه، يلزمك قبل أي شيء أن تخلق بداخلك هذا الشغف، وتضمن استدامته بوضع تعهد ذاتي لا حياد عنه، وإلا فإن مصير الإبداع التوقف، فكيف لنا أن نحقق الديمومة دون مزاولة الإنتاج بشغف؟


قد تهب الرياح فجأة بموجة عالية ما تلبث أن تموت، إنّ توالي هبوب الرياح غاية في الأهمية لتدفع الأشرعة لبلوغ المرام، فماذا تستفيد لو توقفت سفينتك في وسط البحر، ولم تجد أشرعتك الرياح المواتية؟


ضع يدك على جرح الواقع لتدرك الفداحة، اكتملت في رفوف المكتبات دورات وموسوعات ضخمة من تأليف فرد واحد، وهناك موسوعات قادمة بلا شك، لكنّ المرارة كل المرارة في توقف المؤلف في منتصف الطريق، فيضيع الجهد وتنحبس المسوّدات في الأدراج لعدم الاكتمال.


هناك من المؤلفين من يضربهم الحماس في البواكير والبدايات، ثم تجفّ أحبارهم ولا تخرج السطور إلى النور، إنها بؤرة ألم وضياع جهد!. فتفسير الجلالين، هذا التفسير البديع الذائع -كمثال- احتاج إلى المؤلف الثاني ليخرج إلى النور، فماذا نصنع للمؤلفات والأعمال التي تبخّر عن صاحبها الشغف؟


أحيانًا أجد منزلًا مشيدًا، لم يتبقَ له إلا القليل ليكتمل، ومع ذلك أجده بقي على حاله لسنوات طويلة، وقد توقف دون إنهاء التشطيب الأخير ووضع اللمسة النهائية!. إن الخطة الناجحة تحتاج لإستراتيجيات ناجحة.


فمثلًا، الشخص الذي يطارد أرنبين لا يمسك بأي منهما.. لنتخيل أن فنانًا لديه لوحتان وعلبة ألوان واحدة، لو فرضنا أنّ علبة الألوان لا تكفي إلا للوحة واحدة، فإن الخطأ القاتل أن نلون اللوحتين في الوقت ذاته.


لماذا لا نحسب الإمكانات، وندرك نوع العقبات المحتملة، لنتجنبها بوضع خطط بديلة؟. صاحب المطعم قد يتدارك نقص بعض الأصناف بفتح بوفيه مفتوح، فهل فكرت في خطتك البديلة؟ هل أدركت حجم الإمكانات؟ هل لديك فعلًا كامل الشغف لتصل سفينتك إلى الميناء المطلوب؟ إذا حسبت حساب كل شيء.. حينها انطلق لترسم لوحتك الجديدة، وإلا ففكر في عمل آخر يحقق لك النجاح.

الجمعة، 20 ديسمبر 2024

ازرع الابتسامة على الشفاه



هل فكرت يومًا لماذا الابتسامة تشعرنا بالراحة؟، أثبتت الأبحاث أن الابتسامة تخفف حدّة التوتر العصبيّ، وتقلل من الضغط على القلب.. إذا كنت تعاني الأرقَ والقلق وتداهمك الكوابيس فابتسم، فإنّ الابتسام والضحك يزيدان من إفراز مادة البيتا إندروفين، التي تمنح أثرًا مخدرًا يشبه أثر المورفين، الابتسامة لغة لا تحتاج لترجمة، فكل العالم يعرف معناها، فإذا أصبحتَ ابدأ صباحك بابتسامة، فالابتسامة شمس ثانية، والابتسامة لا تحتاج إلى كهرباء ولا تتطلب منك دفع فاتورة، فلماذا لا تبتسم؟

البعض يدمن الابتسام، حتى في تعامله مع النملة الصغيرة، كسليمان النبي {فتبسَّم ضاحكًا من قولها}، وهكذا عادة الأنبياء {ولو كنتَ فظًّا غليظ القلب لانفَضُّوا مِن حولكَ}، وجُلّنا يحفظ المثل الصيني: إذا كنت لا تستطيع الابتسام فلا تفتح دكانًا، وكأن الابتسامة أداة ضرورية في التجارة!

دخلتُ ذات مرّة محل استنساخ المفاتيح وكنت صائمًا متعبًا أتضور جوعًا، طلبتُ من العامل حاجتي بعد إلقاء السلام، وقررتُ أن أطبع ابتسامة على شفاه العامل قبل أن أنصرف، بعدما أنهى نسخ المفتاح، فقال لي بعد أن خامره السرور: عندما دخلتَ ظننت أنك غاضب مني؛ لأنّي لم أنسخ لك مفتاحًا جيدًا، هنا فطنت أني دخلت عبوسًا قمطريرًا نتيجة إجهاد الصيام، فعرفت أنّ الابتسامة مهمة ولها أثر كبير على الآخرين.

لذا، أنصح بالابتسام حينما تدخل والابتسام حينما تنصرف، وأن تجعل بين الابتسامتين ابتسامة.. نقل لي أحدهم أنه كان يهابُ أحد الناس، فلما سافر معه أدرك أنه سمح العبارة، يزرع الابتسامة على الشفاه، فالابتسامة هي الطريق الأقصر لقلوب الناس.

في الآونة الأخيرة انتشرت لوحة تحمل عبارة: "من فضلك ابتسم"، هل فهمنا غايتها؟ أم تحتاج لتفسير؟ أحيانًا تكون الحياة كالمرآة، فلماذا لا تبتسم؟ لا تبتسم للكاميرا فقط، فالعالم كلّه أداة تصوير فابتسم، إذا عجزت عن حَلّ مشكلة ما جرّب الابتسامة، فقد تكون هي المفتاح!

هل فكرنا يومًا ما للابتسامة من سحر؟ إليك معلومة طازجة، تقول: "هل تعلم أنّ الابتسامة تساعد في إنتاج كريات الدم البيضاء؟"، بمعنى أنّ الضحك والابتسام يزيدان من مناعتك، الابتسامة تزيد من إنتاجيتك لكونها تعزز صحة الدماغ.. باختصار، نستطيع القول إنّ الضحك والابتسامة يزيدان من الكفاءة الصحية. يا ترى هل سمعت بالعلاج بالضحك؟ الابتسامة تخلصك من الاكتئاب والقلق، وتضفي عليك مسحة من السعادة، وترفع من معنوياتك.. فلمَ لا تبتسم؟

ربما تتلقى ابتسامة من طفل صغير فيغير مزاجك وتتغير معادلات كثيرة، كلنا يعلم أنّ الابتسامة صدقة، ولكن هل نعلم أنّ الابتسامة تحرك 17 عضلة فقط، بينما الغضب يحرك 43 عضلة؟ ابتسم فلست الوحيد الذي لسعته عقارب الزمان.

لنعش لحظة مع مدشّن ثقافة الابتسام، الشاعر المَهجِري إيليا أبو ماضي، الذي يقول:

قـال الســمـاء كـئـيـبـةٌ وتـجـهَّــمــا .. 
قلتُ ابتَسِـم يكفي التَّجهّم في السَّـما

قـال الـصِّـبـا ولّـى فقـلتُ له ابتسـم ..
 لن يُرجِع الأسفُ الصِّبا المتصرِّما

إيليا أبو ماضي شاعر لبناني، تغرب عن وطنه، وتوفي في نيويورك بعد أن تجرع مرارة الغربة، مع ذلك أنتج وأبدع وشارك في تشكيل الرابطة القلمية، وهو الآن رقم صعب في الأدب تُحنى له القامات، يقول إيليا:

قال: اللـيــالي جـرّعـتـني علـقـمـا .. 
قلت: ابتسم، ولئن جُرِّعت العلقما

فـلـعـلّ غـيـرك إن رآك مـرنّـمًــا .. 
طــرح الـكــآبة جـانـبًا وتـرنّــمـا

ويندد أبو ماضي بالعابسين، ويتهكم بهم فيقول:

‎يا صاح، لا خطرٌ على شفتيك أن ..
‎تتـثـلّـمـا، والـوجــه أن يتـحـطّـمـا

لذا نقول لكل من يطمح في رغد العيش: ابدأ نهارك بابتسامة، فالابتسامة تجلب الرزق وتنفي الفقر، ابتسامتك لا تأخذ منك إلا لمحة بصر، لكنها تحمل أبلغ الأثر، وتبقى في الأذهان طيلة العمر، فهناك من الناس من يزرعون الابتسامات، مُسلحين على الدوام بباقة من الطرائف، لذا ينجذب إليهم كثيرون.

إذا وقعتَ في معضلة ولم تجد موقفًا مناسبًا فابتسم، فإن فيها سحرًا لا تتوقعه، وإذا لم تملك نصلًا ولا قطعة سيف لمقارعة عدوك فابتسم، وليكن شعارك قول المتنبي: "وجهك وضّاح وثغرك باسم".. إذا أردت أن تصادق فابتسم، وإذا أردت أن تفارق فابتسم.

إنّ الحياة تحتاج إلى جرعات للتداوي، وخير دواء لمجابهتها الابتسامة، لهذا ننصح بقراءة الطرائف، جرب طرح بعض النوادر على عيالك إذا حضرت المائدة، ولترقب ماذا يحدث؟

يحكى أن "أشعب" بكى ذات مرة حين كان طفلًا عند قوم يأكلون، فقال له الحاضرون: ما لك تبكي؟ أجاب: الطعام ساخن، فقال له رجل: دعه يبرد، أجابه أشعب: إنكم لا تدعونه!. وذات مرّة حضر أشعب على مائدة الأمير، وكان عليها جدي مشوي، فأخذ أشعب يسرع في أكله، قال له الأمير: أراك تأكله بغضب كأن أمه نطحتك! أجاب أشعب: وأراك تشفق عليه كأن أمه أرضعتك!

الاثنين، 9 ديسمبر 2024

التفكير الإيجابي وقود النجاح

 





كثيرًا ما ينبش الأقارب والأصدقاء في سلبيات الماضي، عند أوّل وهلة خلاف؛ لهذا ننصح؛ لا تنبش القبور، واجعل ذكرياتك سعيدة، عالج اللحظة دون اللجوء إلى عيون الجاحظ الاستطرادية، عش لحظتك ولا تستدعِ إلا ما هو خير.


إنّ استجلاب المواقف السلبية خط أحمر، استجلب ليومك الصفاء والنقاء، وانطلق في حياةٍ سعيدةٍ متفائلة، ولا تبعث الذكريات الميتة المقيتة من لحودها، اتخذ قرارك الصائب، وانتخب الحميد المحمود، ودع حياتك رائعة مشرقة، ضع أصبعك على زر القرار، وقل: لا لاسترجاع جثث الذكريات السيئة من قبورها، فلترقد المواقف السلبية في مراقدها بسلام.. ولا تفتح على نفسك بئر التشاؤم والحظ السيئ.

يحكى أن فأرًا تحدى أسدًا، وقال له: أنا أستطيع قتلك في غضون شهر واحد، قَبِلَ الأسد التحدي، وقال له: وأنا بدوري سأقتلك بعد انتهاء هذا الشهر إن لم تقتلني، في الأسبوع الأول لم يعبأ الأسد بحديث الفأر الصغير، لكن المخاوف تسللت إليه في الأسبوع الثاني، وتفاقمت الأزمة في الأسبوع الثالث، أما في الأسبوع الأخير، فتقدم الفأر مع حيوانات الغابة، ليشاهدوا الأسد ميتًا كما أخبر الفأر.


هذه الحكاية رمزية، فلا تكن أنت هذا الأسد المسكين الذي وقع ضحية هلوساته وهواجسه حتى مات، استفتح كل خير، وإياك ونعيب التشاؤمات والإخفاقات، ركز على أهدافك واستحضر النجاح.. يقال إنّ في هذا الكون طاقة استجلاب، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فلماذا لا تجرب لنفسك حظك السعيد بإطلاق فقاقيع الذكريات البهيجة؟. اطرق باب المواقف المبشرة، واروِ قصص سعادتك ونجاحاتك، ولا تُدِر المفتاح في أقفال الشر، فقط فكر في الإيجابيات تكن فردًا إيجابيًّا.. الأفكار معدية، فلماذا لا تخلق لحياتك أجواء الأنس والارتياح؟.

تحتاج في مسيرتك اليومية لاستخدام الكوابح، وممارسة تقنية النكوص عن كل ما هو سلبي، اقلب الصفحة المؤلمة من ذكرياتك، وتحدث عما يثير فيك الأمل والتفاؤل والإشراق.. لماذا نتحدث عن الرسوب، ونذر وراءنا ابتهاجات النجاح؟ ضع نصب عينيك الفوز، ولا تستحضر الخسارة.


قيل إن التفكير الإيجابي يستجلب الخير، وكثير من الناس يذكرون في مجالسهم شخصًا فيرونه أمام أعينهم مباشرة، بعضهم يتندر، ويقول: "لو ذكرنا  مليون ريال، هل سيهطل علينا؟"، ونقول لك: جرب ما تتمناه، واترك ما لا ترجوه وراء ظهرك.

تخلص من نسبة التشاؤم التي تتعملق في داخلك، وقرر انتزاع سلبية واحدة من حياتك كل يوم، لتتخلص من كل السلبيات ذات يوم!. إن التخلص من السلبيات يحمل معه إحلال البدائل، لهذا استبدل بالسيجارة السواك، على سبيل المثال، واكنس العادة السلبية بإحلال الإيجابيات، وتفطن للسلبيات الخفية؛ فالصينيون كرسوا جهودهم في بناء السور العظيم، إلا أنّ اللص دخل من الباب حين كان الحارس خائنًا، ولم يتكبد عناء التسلق!. لهذا، توثق من النزاهة، وتحقق من سدّ الثغرات.


لكل بيت أثاث، ولكل مزرعة بذار، والشخصية المتميزة كالبيت الجميل والبستان الرائع، فما الذي تحتاجه لتأثيث شخصيتك وإنضاج ثمار عطاياك؟ إنك تحتاج إلى صفات وسلوكيات تقودك إلى المطامح، وترقّيك في سلم التميز والنجاح، وإليك أهم العتبات: التخطيط، الثقة، الدافعية، التواصل، القيادة، التفاؤل، الإصرار، المرونة، التواضع، والإبداع.. وإن أغلب الناجحين يتحلون بهذه السمات، فابذرها في مشتل بستانك، لتجني الثمر.


من يلاصق الورد يتعطر بشذاه، والعطّار تفوح منه رائحة المسك، قد يأتيك ابنك الصغير أو ابنتك بكتاب مصور، يريد منك أن تحكي له حكاية أو تسمي له الصور، فلا تتجاهل هذا الإقبال منه وإن كنت مشغولًا، حتى لا تقتل فيه روحه الإيجابية ومحبته للتعلم، عوّد نفسك نشر الإيجابيات، وافتح لك دكانًا توزع فيه البسمة والسعادة على كل المحيطين بك، افتح الآن مشروع الحديث الحسن، حتى إذا كانت الحياة تعيسة.

أوقد شمعة وتفاءل بالخير، ألم يحدث لك الفرج ذات مرة؟. تفاءل، لعل الفرج يأتي بعد دعوة وغفوة، كما حدث للكليم حين جاءته إحداهما تمشي على استحياء.


افتح أبواب السعادة بالتفاؤل والاستبشار والابتسامة، أشعل شعلة شمسك الباطنية، وأطلق شروقك على الجميع، وانشر طاقة التفاؤل، ولتشع روحك بالسعادة. القرار قرارك، والأمر إليك، فلماذا لا تطرق الباب الذي تريد؟ وتذكر جيدًا أن الأبواب تفتح لمن يطرقها، فتفكر أي الأبواب تقصد قبل الطرق.

كن كالنحلة الطيبة تمتص الرحيق لتصنع العسل، كن طيبًا وإيجابيًا وامتص كل الطيبات والإيجابيات التي من حولك، كما تمتص الإسفنجة الماء والمحاليل.. يحكى أنّ ولدًا كان يسمع حديث أمه، قالت له الأم ذات يوم: يا بني إذا كنت جنديًّا فكن جنرالًا، وإذا كنت معلمًا فكن وزير التعليم. يقول الولد: لكني لم أكن هذا ولا ذاك، لأني كنت رسامًا فأصبحت بيكاسو.


إن قوة التخيل تستجلب الأفكار وتستحضر النجاح، فاستخدم فكرك كمغناطيس يجذب برادة كل ما يقودك إلى أهدافك وأمنياتك.. ومن حام حول الحمى أوشك على الوقوع فيها، لهذا ابتعد عن كل سلبي وحلق مع نوارس النجاح!. استعن باللاشعور ليدر عليك المنافع، فالشتلات الغضة لا ينقصها إلا وابل المطر لتنمو، وكذلك مزرعة نجاحك، لا ينقصها إلا غيث الأفكار النيرة، فإذا ظفرت بالقوس والنبل فشد الوتر، وأحكم رميتك.. لا تفكر تفكير الفقراء، وفكر كما يصنع الأثرياء لترث جرار الذهب، فالتفكير الناجح هو الذي يبني مدينة الأحلام.


باختصار، أنت صناعة فكرك، والصورة الذاتية التي ترسمها لنفسك  تتحقق، لهذا لا تحبس عصافير كلماتك الطيبة في قفصك الصدري.. أطلق طيور قلبك لتغرّد بكلّ خير.

الخميس، 28 نوفمبر 2024

لا تستسلم وحقق أهدافك!

 



هل رأيت أسطولًا ضخمًا من السيارات لشركة شهيرة؟ قد تنبهر لحظة مشاهدتك لهذه الأساطيل اللامتناهية، وقد تتساءل: كيف حققت كل هذا النجاح؟. نقول لك: ثق تمامًا أنّ هذه الشركة العملاقة واجهتها تحديات عديدة وعقبات كثيرة، بعض تلك الشركات واجهت الفشل والإفلاس والإحباط الفظيع في بعض منعطفاتها، إلا أنّ ثقافة الإصرار والصمود هي التي جعلت قلب هذه الشركة ينبض بالحياة، وينضح بالدم والنّجاح.

الإخفاق لا يعني النهاية، فكم من طائرة خرجت عن مسارها ووصلت إلى الهدف في الموعد المحدد!. إنّ لكل مؤسسة حكاية، وإذا راجعنا سجلات الشركات فسنجد أن نواة تكونها صغيرة خجولة، غير أنّ الواقع الآن أضحى مختلفًا.. فإلى كل أصحاب المشاريع الصغيرة، لا تخجل من ضآلة مشروعك، فما خطواتك هذه إلا نواة وقداحة، إنّ خطواتك الفتية المحدودة اليوم ستتعملق ذات يوم، ألا تعلم أنّ طبيعة البذور النماء؟ فرب شتلة صغيرة ستغدو شجرة عظيمة متفرعة الأغصان عما قريب. وإليك التجربة لتتأكد.
ضع لك دفترًا وسجل فيه بدايات الشركات العظيمة، ستجدها أقل من كلمة متواضعة، فلماذا لا تطلق مشروعك الآن؟ توقف لحظة، ليس المهم الحجم في البداية، المهم وضع الأسس، ثم باستخدام توائم الذكاء الاصطناعي تستطيع استنساخ العنابر وإنشاء الكبائن المكرورة، لعل كشكًا صغيرًا الآن يتحول إلى غوريلا عملاقة في السوق الاقتصادي بعد سنوات قليلة.. لهذا نقول: انتخب بذرة مشروعك بعناية، فبذرة الليمون الحامض لا تنتج العنب السكري، وكما قيل في الأمثال العربية: "إنك لا تجني من الشوك العنب".

لماذا نرتدي ثياب اليأس، ونتذرع بالتشاؤم؟. كلنا يحفظ الحكمة الصائبة: "من جد وجد، ومن سار على الدرب وصل"، فكم من تلميذ محدود القدرات نال شرف الدكتوراه، حين غير الصفحة وقرر الانطلاق!. وأنت لست بدعًا، فبإمكانك الرقي والارتقاء وبلوغ المراقي الجسام، فلماذا لا تحرك مكعبات نردك، لترى مقدار الحصيلة التي ستجنيها إذا ألقيت أحجار العزم والإصرار؟ كم من مقالات وحكايا قُرئت عن الإصرار!. ولن يكون هذا الأخير، لهذا اعتبر هذه السطور بمثابة تأكيدات ذاتية تعزز الدافعية، وحتمًا سيكون لها صدى في واقعك.

فإذا كنت تنشد الحل لمشكلة أو معضلة أو مرض أو ورطة، فلن يكون الحل في صندوق الكسل؛ فالتقاعس ليس حلًا، لهذا ننصحك بطرق جميع الأبواب المحتملة، فالاستسلام يعني الهزيمة، فلماذا ترفع رايتك البيضاء في بداية الطريق؟ قد تكون أنت القدوة للآخرين، فلماذا الانهزام بسهولة؟ واجه خصومك بسلاحك، فلكل مخلوق سلاح، فالحرباء سلاحها التمويه والاختباء، والذبابة سلاحها الطيران، والنحلة لديها إبرة لاسعة، والبعوضة لها إبرة مختلفة، حتى الظرِبان له سلاح فتّاك يحميه، فما هو السلاح الذي تمتلكه؟
إذا كنت تنشد المال، فاعلم أنّ الفقر يقف خلف باب الكسل، فتجنب طرق هذا الباب تحديدًا وإياك ودخوله، وإذا طلبت الغنى والثروة فاطرق باب الجِد والعمل، كن كالحاج محسن الذي بلغ المائة ولا يزال يخرج من داره كل صباح ليرعى مزرعته، سنوات طويلة ولم يستسلم، ورغم الوهن والضعف والشيب، لا يزال يعمل، فلماذا نتكاسل؟
يروى أنّ ابن أحد العظماء أراد مساعدة رجل حمّال ينفق على أمه وأخته، غير أنّ هذا الرجل رفض أخذ المعونة، وأحدث حديثه نقلة في قلب هذا الشاب، ما جعله يفتش عن السعادة في العمل عند حداد، وافق الحداد على طلبه حين جاءه متنكرًا، فلما حانت وفاته: "أخبر أبي أني عشت سعيدًا"، فسأله الحداد: "ومن هو أبوك؟"، قال له الفتى: "أنا ابن فلان الثري السيد ".. السعادة ليست دائمًا في الوجاهة والثراء، فرب عامل بسيط أسعد من ملوك الأرض!

فلماذا الكسل والفشل وضياع الهمة والعزيمة؟ البعض يضع أمامه ثلاث دروع ليهرب من المسؤولية، وهي: (لا أعرف، لا أستطيع، مستحيل). وكل هذه الدروع تتهاوى أمام رغبة الإصرار، فالظلام مهما حاول فلن يتمكن من إطفاء شمعة صغيرة، فلماذا لا تكون أنت الشمعة المتوقدة؟ وإليك السؤال: ماذا تصنع إذا أعاقت طريق تقدمك سلسلة جبال الأنديز؟ الحل أن تزيلها أو تتسلقها أو تتفاداها، فإذا لم تستطع فاخترقها لتصنع لك نفقًا تفترش فيه سكة قطارك.

الحياة رغم صعوبتها ووعورتها تقدم لك نفحات وهبات وعطايا، فإذا كنت رجلًا قَزَمًا فقد تكون ساحرًا، وإذا كنت بطلًا ضائعًا فقد تعثر على الخاتم الأوحد، كما في ملحمة سيد الخواتم للروائي البريطاني جون رونالد تولكين. قد يقول البعض: وماذا يصنع الخيال أمام الواقع؟ نقول: الواقع أغرب من الخيال في كثير من الأحيان إن لم تكن تعلم، وهناك كنوز أثمن من الخاتم الأوحد، فهل بلغتك قصة أرماند؟
كان أرماند طفلًا صغيرًا يقله والده كل يوم إلى مدرسته، وكان والده يقول له: "يا أرماند، سأكون بجانبك على الدوام مهما حدث"، وذات مرة حدث زلزال مدمر في أرمينيا، المنطقة التي يقطنون بها.. ذهب الوالد مسرعًا إلى مدرسة ابنه ليراها مجرد حطام، هنا أخذ الأب يبكي من هول الصدمة، وفجأة مسح الدموع، وأخذ يتفكر.. أين يقع فصل ابنه في وسط الحطام؟ استدار خلف الحطام، وتحديدًا في المنطقة اليمنى عند موقع فصل ابنه تمامًا، وأخذ يحفر في صمت كالمجنون.
حاول بعضهم ثنيه عن الحفر، إلا أنه لم تخرج منه إلا عبارة واحدة هي: "إما أن تساعدني، أو تدعني وشأني"!. استمر هذا الوالد المصدوم في الحفر لمدة يوم كامل، ولم يستسلم رغم نزف يديه، وبعد مرور ثلاث عشرة ساعة من اليوم التالي انتزع صخرة كبيرة، وأخذ يصرخ في التجويف: "أرماند، أرماند، هل تسمعني؟".. هطلت دموعه وأجهش بالبكاء حين سمع صوت ابنه، يقول: "أنا هنا يا أبي، لقد قلت لزملائي لا تخافوا، فأبي سيأتي لينقذني وينقذكم معي".. وهكذا استمر في الحفر، حتى استطاع هذا الرجل المكافح إنقاذ 33 طفلًا من تحت الأنقاض، مقابل 14 طفلًا سحقوا تحت الحطام.

هذه القصة الواقعية، التي وقعت في عام 1989 في أرمينيا، تحثنا على بذل قصارى الجهد، فماذا لو سمع هذا الرجل حديث المثبطين؟. أنت كذلك لك خياران، إما أن تستجيب لدوائر الإحباط التي يبثها الكسالى لك كل يوم، أو أن تسمع لصوت الإصرار الذي يصطرخ بداخلك لتحقّق أهدافك.

الجمعة، 15 نوفمبر 2024

كن سببًا لنجاح ابنك وتألقه

 





لماذا يمتلك كثير من الآباء ذاكرة قصيرة، كذاكرة الذبابة؟ ينسون أخطاءهم وزلاتهم أيام الطفولة، وينتظرون من هذا الابن المسكين الكمال!. عليه نقول: رفقًا معاشر الآباء، فأبناؤكم عجائن ينتظرون منكم التشكيل، ومن البديهي أن يقع الطفل في الخطأ.

أتذكر أننا طلبنا من ابننا غسل الفاكهة، فغسلها جيدًا، لدرجة أنه استخدم معها الصابون، وَفقًا لإرشادات مربية رياض الأطفال، التي تؤكد على النصح: يلزم غسل اليدين بالماء والصابون!. بعض الآباء يقيم الدنيا ولا يقعدها؛ بسبب خلل يسير، بينما كان موقفنا هو الضحك، واعتبرناها طرفة ونادرة من النوادر، تستحق التقييد.. أقترح تخصيص دفتر لطرائف العائلة، لتتم قراءتها في المستقبل، لتظل ذكرى سعيدة تجلب البِشر والسرور.

نعود إلى صلب الحديث، فالأبناء من طبعهم الخطأ والزلل.. أتذكر أني في أول يوم في الجامعة كنت كالتائه الضرير الذي لا يعرف الكوع من البوع، لدرجة أني كنت أفتش عن العمادة فدخلت مطبخ الجامعة، ضحكت كثيرًا من نفسي، حيث أسلمتُ قيادي لبطني بدلًا من العقل، وقلت مداريًا: من الجيد أن أعرف موقع المطعم حتى لا أموت جوعًا، هذا بالنسبة لشاب كبير، فكيف بطفل صغير؟!

واثق أن كل أب يحمل في ذاكرته المعطوبة زلة وقع بها، فلماذا نهوّل من زلل الأطفال، والبديهي أن يرتكب الطفل بعض الأخطاء؟ ولكن السؤال الأهم: كيف ندير المواقف؟ هل تعلم أنّ الطفل لا ينسى؟ وكلنا يكرر: "الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر"، فبماذا تريد أن يذكرك ابنك؟

يروي أحدهم أنه كان يتشوق لأيام العيد، لأنّ أبويه كانا يأخذانه إلى السوق ليشتري الملابس الجديدة وبعض الألعاب. يقول الراوي: حين كبرت علمت أن أبي كان يمر بظروف صعبة، ومع ذلك لم يحرمنا فرحة العيد، لهذا أقسمتُ ألا أحرم أطفالي هذه الفرحة مهما كانت الظروف!

لكل طفل خصائص، فمن خصائص الأطفال عدم إدراك العواقب بالشكل الصحيح، كما أنّ لهم ضعفًا في جهازهم الإدراكي، ويحتاجون إلى وقت طويل للتكيف ومجانبة الخطأ، فالتبول على الملابس قد يتكرر في بعض المرات رغم كبره النسبي. فمن يحتاج إلى النصح حقيقة، الأبناء أم الآباء؟
تقديرنا أن كلا الطرفين يحتاج لمد يد العون، فلنبدأ بالآباء:

-لا تتعجل إصدار الأحكام، واحسب حسابًا للخسائر النفسية قبل إحلال العقاب.

-اسأل الطفل عن الدافع، وافسح له المجال ليوضح الدواعي التي أوقعته في الخطأ.

-لا تصدر أي حكم قبل أن تسمع من الطفل وجهة نظره.

-إذا كان الخطأ يستحق العقاب، فاختر العقاب المناسب، وقد يكفي إشعاره بالحزن والغضب منه.

-احكم بالعدل، فالعقاب على قدر الخطأ دون تجاوز.

-تجنب تدليل الطفل، وأعطِ الخطأ حقه من العقاب دون تفريط أو إفراط.

أبرز الأخطاء التي يقع بها الأطفال:

-لبس الحذاء بطريقة خاطئة.

-عدم إنجاز المهام بسرعة كافية.

-عدم دخول الحمام في الوقت المناسب.

-تلويث ملابسه النظيفة أثناء اللعب، أو تناول وجبة الطعام.

-عدم إتقان المهارات المعقدة، كإغلاق أزرار القميص وربط قفطان الأحذية.

-العبث بالأدوات الخطرة، كاستخدام الأدوات الحادة، والعبث بالكهرباء.

-اللعب الخطر، كصعود الأماكن الخطرة، وكالتزلج على السلم.

-تخريب المقتنيات وإلحاق الضرر بالمنزل بسبب العبث واللعب غير السليم، كإتلاف الأجهزة، وطلاء الأثاث والجدران.

الطفل له عالمه الخاص، عالم مغمور باللهو واللعب الجميل، نحتاج أن نتذكر أيام طفولتنا البريئة لنعرف ما يشعر به الأولاد، بعض الأحيان لا يُحسن الطفل اختيار الموقف الصحيح.. أيستمر في لعبه الممتع، أم يذهب إلى الحمام ليفرغ مثانته؟ تسحره الألعاب فيختار الموقف الأول، وتقع الكارثة بتلويث ملابسه.. أنفهم موقفه ونساعده في محنته، أم نكتفي بالغضب والإحباط؟

إليك هذه الحكاية: يُنقل أن رجلًا يسمى ديك هيوت رُزق بابن معاق أسماه ريك هيوت، كان هذا الابن لا يستطيع الحركة، وعرف الأب أنّ ابنه يتمنى المشاركة في سباق الـ 8 كيلو مترات، وافق الأب وتكفل بدفع كرسيه المتحرك كل تلك المسافات.. لم تكن هذه إلا البداية لرحلة رياضية امتدت 25 سنة، حتى إن هذا الطفل قال: "لا أشعر أبدًا أني معاق"!

بعد 7 سنوات رغب الابن المعاق بالمشاركة في سباق الرجل الحديدي، فتوقف الأب لحظة حين علم أنه سباق ثلاثي يضم ثلاث رياضات هي: السباحة والجري وركوب الدراجة، ولم يكن هذا الأب يجيد السباحة، ولم يمارس ركوب الدراجة منذ فترة طويلة. مع ذلك وافق على خوض السباق من أجل تحقيق أحلام ابنه، لذا أخذ يتدرب خمس ساعات في خمسة أيام أسبوعيًّا، حتى بلغ الاحتراف وتخطى كل العقبات إكرامًا لابنه واحترامًا لرغبته!. في ختام المطاف أصبح هذا الابن أحد أعضاء فريق تطوير الكراسي المتحركة للمعاقين.

فهل نمتلك نحن الآباء تضحية هذا الأب المكافح؟ فلنحمد الله على سلامة أبنائنا، ولنعلم أنّ خلف كل تربية ناجحة جيلًا ناجحًا يرفع الرأس ويبشر بالخير.