هناك الكثير من الناس يكرهون رؤية الغراب، يتشاءمون منه ويتطيرون به لا شعوريًّا، من منظره ونعيبه وحركاته المقززة، يراه البعض طائر النحس، وعلامة من علامات الحظ السيء، وقد يظل البعض طيلة النهار في بيته حينما يسمع نعيقه صباحًا، أو يراه ينقر زجاج نافذته، فيقول: "لماذا أرسل الله لي هذا الغراب؟"، قد تمتد به الهواجس والظنون فيقول: "أيّ مصيبة ستحل علينا، من قدوم هذا الطائر المشؤوم؟!"، وقد يفتح النافذة ويمسح الغرابَ ببصره، ليرى قذارة أكله وصياحه المزعج، وفوضويته القبيحة، ثم يراه في خلجات نفسه مبعوث الموت ورسوله، وناقل الأنباء السيئة والأخبار المشؤومة، فيعاضد هذا المعنى الذي حلّ به ما ينقله الناس عنه بكونه (غراب البين)، وقد يدعم هذا الاسترسال آيات الذكر المجيد فيما نقله من حكاية الغراب وجريمة أول قتل في التاريخ، حيث يقول تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ)، هناك من يتضايق من مظهره، وقد يرفضه لو قدّم له في قفص كعربون صداقة، بل قد يتهكم على المُهْدي ويتندر عليه، فيقول: "أيّ عاقل يُهْدي الناس صوت الغراب؟!"، فأغلب النفوس تشمئز من صوته وتنقبض من مرآه، حتى وصفه صاحب منطق الطير (فريد الدين العطّار)، بأنه من لئام الطير، وقد ثبت أنّ العرب تتشائم منه، حتى أنهم اشتقوا من اسمه مفردات في ذات السياق، منها: (الغربة، والإغتراب، والغريب)، يكفي في هذا الطائر قذارة وذمامة أنه يأكل الجيف والقمامات، فهل نزيد أم نكتفي؟، لنتحدث الآن عن الكفة الأخرى ليعتدل الميزان ونصل إلى الحكمة والغاية من هذا الحديث، فنقول: مع كل هذه المواصفات السيئة وغيرها، ما ذنب هذا الطائر المسكين؟، ما جرمه إن خلقه الله قبيحًا مزعجًا فوضويًا بلون حالك أسود كالليل؟، هل له ذنب أو اختيار؟، لو كان الأمر بيده، لكان طاووسًا يزهو بريشه، وبلبلًا يصدح بتغريده، ولاستخلص لنفسه، ما يستخلص كل ذي عقل، ولكنّ الأمر خارج عن إرادته ورغبته، فهل ظَلَمَه الله سبحانه وتعالى حينما خلقه بهذا الشكل البغيض؟، وبهذا الصوت المنكر النشاز؟، ماذا يفعل الغراب بنفسه ولا حيلة له ولا ذنب؟، لماذا يكرهه البشر؟، ويصبون عليه جام غضبهم؟، أليس الغراب مخلوق من مخلوقات الله؟، فهل في خلق الله عيب سبحانه وتعالى؟، ربما يكون حالك السواد، طويل المنقار، مقزز الأكل، عثر السير، مزعج النَبْر، فوضوي التحليق، ولكنه طائر خلقه الله بحكمته، وتبارك الله أحسن الخالقين، أفي خلق الله نقص؟، أم وراء خلق الغربان حكمة نجهلها ولا ندرك غايتها؟، فلا يعلم كل العلم إلا من خصّه الله بكرامته وحباه بفيوضاته، ورد في بعض المرويات عن الغراب خصال طيبة، منها: أنه حذر الطباع، بكور في طلب الرزق، غيور ستور عند التزاوج، فلماذا نتحامل على هذا المسكين؟، ألا نعثر له على بعض المحاسن؟، هل هو ذميم قبيح حتى المنتهى؟، أما نجد فيه بعض النقاط البيض التي تساهم في تقبلنا له، لو بحثنا لوجدنا، ولعل من أبرز تلك المحاسن:
-الفطنة والذكاء: لا يغرنا مظهر هذا الطائر وشكله، فلقد قيل أنه من أذكى أنواع الطيور، فلقد حباه الله بدماغ كبير بالمقارنة لجسمه.
-حل المشكلات: حتى وإن رأينا فيه صفات سيئة، فلديه مهارات وقدرات تواصل مدهشة، تجعله متميز في حل المشكلات.
-النباهة والفراسة: لنحذر من عيون الغراب، فلديه مقدرة عجيبة، في الحكم على البشر، وله مقدرة على قراءة الوجوه وتعبيراتها.
-الإخلاص الزوجي: يقتصر الغراب على زوجة واحدة طيلة حياته، ويتناوب معها في تغذية فراخه واحتضانهم.
-رعاية الأبناء: يخلص الغراب لأبنائه ويطعم كتاكيته، حتى بعد مغادرتهم العش، ويستمر في اطعامهم حتى يصلوا لسن البلوغ.
-القناعة في الأكل: لا يقتصر أكل الغربان على اللحوم فقط، بل تمتد القائمة بحيث نستطيع أن نخمن أنه يأكل أي شيء، وإن كان جيفة غير مستساغة.
-الحظ الحسن: ليس دائمًا الغراب مضرب الفأل السيء، ولا علاقة له به، بل هناك بعض الثقافات والشعوب يرون في الغراب رمز السعادة والحظ الجيدة.
ليس لنا هدف في تمجيد الغراب، بقدر ما أننا نرغب في اكتشاف الحكمة منه، فما هي الحكمة التي نتعلمها من هذا الطائر الغريب؟، نقول إن الله سبحانه وتعالى قد يرزق بعض الناس أبناءً معاقين أو مشوهين أو قبيحي المنظر أو ذوي عاهة، فهل نتقبلهم؟، أم نبغضهم؟، قد يبتلى بعض الناس بقريب مزعج أو ثقيل ظل أو سيئ الخلق أو ذميم، فكيف سنتقبل التعايش معه؟، كذلك نحن قد نتعرض لتشوه أو مرض أو ضعف أو بلية مستدامة، فهل سنسخط على الله ونكفر به؟، أم نتقبل الظرف الذي منحنا الله إياه ونتكيف معه؟، في الحقيقة قد لا نعرف وجه الحكمة الإلهية من وراء ذلك وقد نسخط، هنا نقول: لنتوقف عن السخط والضجر، ولنتعلم من هذا الغراب الحكمة، فلماذا خلق الله الغربان؟، قد يستقبح البعض هذا الطائر المسكين، ولكن لو بحثنا له عن محامد لعثرنا له على بعض الصفات، ومع الوقت قد نتقبل وجوده معنا، إذًا فلنتعلم من الغراب حكمة تقبل الأشياء المبغوضة التي لا نستطيع تغييرها، لنتأقلم معها ولنسلم لحكمة الله الغائبة عنا، من يدري ربما نفيق ذات يوم على سر وجود هذه الأشياء التي نظنها سيئة؟، فنقول متأخرين: الحمد لله.
عبدالعزيز آل زايد